في ظل ذلك رأت إسرائيل أن تبادر على اكثر من اتجاه لاستيعاب نتائج و تداعيات المواجهة مع الإرهاب الذي ترعاه وتستثمر فيه على الساحة السورية فكان منها سلوك على اكثر من اتجاه ، تخطيطي عقائدي تجلى في اطلاق وثيقة ازنكوت الاستراتيجية البالغة الدلالات و المرامي ، و اتجاه عملاني ميداني ترجمته بما حصل في الجولان من تهيئة بيئة عدوان قامت به إسرائيل ضد 14 هدفا سورياً عسكرياً بعد أن كانت استهدفت في بداية عدوانها أهدافا مدنية ذهب ضحيتها مدنيون عزل لا علاقة لهم بالمواجهات الميدانية لا من قريب ولامن بعيد و أخيراً اتجاه سياسي دبلوماسي تعمل عليه إسرائيل داخل الولايات المتحدة خاصة في أروقة الكونغرس الذي يتحضر لاتخاذ موقف بالرفض أو الموافقة على الاتفاق النووي الإيراني .
لقد سعت إسرائيل لهذا السلوك و في الاتجاهات الثلاثة من اجل استيعاب نتائج المواجهة الميدانية و الحراك الدولي السياسي و التي آلت إلى غير ما تشتهي إسرائيل ، و نذكر هنا بملفات ثلاثة ترى فيها إسرائيل و بالشكل الذي انتهت اليه ترى فيها خسارات استراتيجية لا تعوض ، أولها الملف النووي الإيراني الذي عولت إسرائيل عليه كثيرا لإبقاء ايران تحت الحصار و العزلة ، أو عرضة لحرب دولية تدميرية أو إجبارها على التراجع عن سياستها ضد إسرائيل ، و ثانيها الوضع السياسي و الحكم في سورية و قد عولت على الإرهاب الذي ترعاه من اجل إسقاط سورية و جعلها جرماً يدور في فلك المشروع الصهيواميركي بما يناسب المصالح الإسرائيلية خاصة و أنها هيئت مجموعة الخونة و المرتزقة من أولئك الذين يدعون انهم يمثلون ما يسمونه ثورة سورية ، هيأتهم من اجل تنصيبهم حكاما يرعون مصالحها في سورية ، و ثالثها مشروع رسم خرائط جديدة في المنطقة على أساس عرقي أو مذهبي أو أي إثنية أخرى من اجل إرساء التناحر الدائم و جعل الكل تحت سيطرتها .
و الآن ترى إسرائيل أن كل أحلامها تتبخر ، فايران تخرج من العزلة الظالمة التي فرضت عليها عدواناً ، و ما أسمي ثورة مزيفة في سورية سقط و افتضح أمره بانه إرهاب يضطر الجميع للتبرؤ منه و التنصل العلني من دعمه ، و بالتالي لا أفق لهذا الإرهاب في الوصول إلى السلطة التي لن تكون في سورية إلا لمن يختاره الشعب السوري الذي يتشبث بشرعية قيادته و حكومته ويشتد التصاقه بجيشه الذي يدافع عن الوطن ، أما التقسيم الذي حلمت به فإنه كما بات واضحا خاصة بعد المواقف الأخيرة للقيادة الإيرانية و لمحور المقاومة بشكل عام ، انه مشروع لا يمكن أن يمر في الميدان ، كما أن حلفاء محور المقاومة لا يمكن أن يمرروه في مجلس الأمن و لن تتكرر مأساة القرار 181.
في ظل هذا الواقع قامت إسرائيل بعدوانها على جنوب سورية ، عدوان مخطط رمت من خلاله كما يبدو إلى تحقيق أهداف أربعة : أولها تثبيت الوجود في الميدان السوري و القول بأن إسرائيل جاهزة لم تؤثر الخسائر التي ذكرناها على فعاليتها ، و ثانيها رفع معنويات الإرهابيين بعد الانهيار الفظيع الذي لحق بهم جراء خسارتهم للقلعة التي بنوها في الزبداني و عولوا عليها لتكون الخنجر المسموم في الخاصرة الغربية لدمشق ، كما و مد هؤلاء بالغطاء الجوي أو الدعم الناري للقيام بشيء ما باتجاه دمشق خاصة في الغوطتين الشرقية و الجنوبية أو الجنوب تحت عنوان الحزام الأمني الذي تنافس به تركيا في الشمال كل ذلك وللتعويض عما حصل لهم من هزيمة في الزبداني ، و ثالثها استفزاز محور المقاومة عامة و ايران خاصة لحملها على فعل ما تستثمره إسرائيل أثناء نقاش الاتفاق النووي في الكونغرس من اجل التأثير على قرار هذا المجلس و حمله على رفض الاتفاق ، و رابعها وقد لا يكون آخرها ، إشعار الخصم و العدو بانها وضعت موضع التنفيذ استراتيجية ازنكوت المعلنة حديثا و جس النبض حولها و حول ردات الفعل عليها بعد أن كان السيد حسن نصرالله قد اطلق في مواجهتها استراتيجية وادي الحجير التي تعلم إسرائيل مضمونها المؤرق لها . بالإضافة إلى ذلك ركز الإعلام الإسرائيلي على مسألة « الحرب القريبة » والاستعدادات لها إلى حد تجرأ فيه أحد المسؤولين على القول باننا لا نسأل هل ستقع الحرب بل السؤال متى ستقع.
والآن وبعد العدوان يطرح السؤال هل أن إسرائيل حققت أهداف عدوانها وهل أن المنطقة باتت حقيقة على اعتاب حرب جديدة؟
للإجابة على هذه التساؤلات نرى وجوب النظر بروية بعيدا عن غوغاء الإعلام الإسرائيلي أو الحرب النفسية التي تشنها إسرائيل لتحجيم مكتسبات الخصم ودفعه لمنزلقات تريحها، وفي هذا الإطار نرى:
- عدم تغير جوهري في الميدان السوري على صعيد المواجهات الدائرة أو ما يمكن اندلاعه إثر العدوان الإسرائيلي كما خططت إسرائيل. فمعركة الزبداني مستمرة في الاتجاه المرسوم لها وبثبات واضح، وان امر المنطقة بات من الوجهة العسكرية محسوما وبشكل مؤكد وما تبقى من جيوب ومربعات إرهابية بات محاصرا بشكل محكم ينتظر ساعة تطهيره. وبالتالي لم تغير غارات إسرائيل شيئا في المشهد.
- عجز الإرهابيون عن استثمار الضربات الجوية الإسرائيلية التي جاءت لدعمهم والتي هي بشهادة الإسرائيليين أنفسهم تخطت كثيرا ردة الفعل على الصواريخ المزعومة التي سقطت في الجولان المحتل، غارات جاءت لدعم الإرهابيين في عمل اقتحامي ما، لكن الدفاعات السورية الجاهزة والمتحفزة لكل طارئ منعت هذا الاستغلال وأبقت عجز الإرهابيين على حاله دونما أي تغيير.
- ردت أميركا بشكل مؤثر على المحاولات الإسرائيلية البائسة، وكان البيان الصادر عن سفارة أميركا في إسرائيل والمتضمن عبارة « الجولان المحتل » والعودة اليها بعد 30 عاما من التجاهل، كان بمثابة رسالة أميركية قاسية لن يرتاح اليها المسؤول الإسرائيلي الذي قرر العدوان والذي سيجد أن فعله ارتد عليه سلبا
- أما اختبار استراتيجية ايزنكوت وجس النبض حولها، فإننا نعتقد بأن صمت محور المقاومة عن الإدلاء باي موقف أو تصريح يعتبر جزءا من الرد الذي تفهم إسرائيل انه آت لا محالة في توقيت ومكان ووسيلة تناسب المحور في استراتيجيته المبنية على معادلة توازن الردع التي لن يفرط بها.
- وأخيرا بالنسبة للتهويل بالحرب فإن محور المقاومة ورغم جهوزيته لها وبالشكل الذي تدركه إسرائيل يعلم أن إسرائيل غير جاهزة لها خاصة وأن دفاعها عن الجبهة الداخلية لم يحكم وأن قدراتها لتحقيق النصر بعد حسم الحرب لم تتوافر، وأن القرار بالذهاب إلى الحرب ليس بيد إسرائيل اليوم.
لكل ذلك نقول إن عدوان إسرائيل الأخير رغم ما أوقع من خسائر، فشل في تحقيق أهدافه أولاً ثم إن الرد عليه لن يترك ولن تكون إسرائيل مرتاحة إليه عندما يقع. وسيقع بما يؤلمها.
* استاذ جامعي وباحث استراتيجي - لبنان