وشرقي يقوده الاتحاد السوفياتي (حلف وارسو،) نقول رغم التجاذب في العلاقات الدولية فإن العالم كان يشعر بأمن لم تكن تخرقه إلا إسرائيل في حروبها على العرب.
ولكن ما إن انهار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو حتى استفردت أميركا بالساحة الدولية وسخرت لنفسها كل شيء بما في ذلك الحروب ومجلس الأمن والقانون الدولي الذي استباحته من اجل إقامة نظام عالمي لا يعترف لغيرها من الدول بصفة القوة العظمى بما في ذلك حلفاؤها في الأطلسي فضلا عن روسيا والصين. فأميركا تصرفت منذ العام 1990 بانها هي السيد العالمي الأوحد الذي لا يقيده قانون، ويعطي لنفسه الحق بالتدخل في كل شيء، لان كل شيء في العالم بنظرها بتصرفها لأنها كما قال بوش «اختارها الله لتقود العالم».
لقد عانى العالم و لا يزال ، من السياسة الأميركية فوق ما يمكن أن يتصور احد ، خاصة أن هذه السياسة الاستعلائية التدميرية قادت في اقل من أربعة عقود إلى ست حروب تقليدية أضيفت اليها حرب هي الأفظع و الأكثر إجراما تمثلت بالحريق العربي الذي تقوده و تديره أميركا منذ خمس سنوات تقريبا ، حروب ذهب ضحيتها حتى الآن مليونا قتيل و ثلاثة ملايين جريح و 25 مليون مهجر ، كل ذلك حدث و أميركا تدعي أنها تريد أن تنشر الحرية و الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان الخ ... المعزوفة التي اتخذتها أميركا لحنا تتراقص ألسنة نار حروبها على انغامه .
في مواجهة ذلك اختارت دول العالم بمعظمها الانحناء والتسليم لأميركا بما ليس لها، اتقاء لشرها، وقلة كانت القوى التي تمسكت بحقوقها ورفضت الخضوع، وكانت سورية وإيران في طليعة تلك القوى التي شكلت نموذجا مميزا لكل متمسك بحقوقه الوطنية من سيادة واستقلال. واستمرت الدولتان في تعزيز تحالفهم الاستراتيجي في إطار محور المقاومة الذي يضم اليهما حزب الله في لبنان.
وكان الرد الأميركي ملاحقة ومكائد ودسائس لنشر الفوضى وزعزعة الاستقرار فيهما وجاءت بالأمس وثيقة ويكليكس الأخيرة لتفضح السياسة الأميركية ضد سورية خاصة منذ العام 2006 وتكشف خططها للضغط عليها لترويضها، لكن سورية ومعها حلفاؤها في محور المقاومة استمرت على صلابتها متمسكة بحقوقها ولم تنجح حرب إرهابية شرسة قادتها أميركا ولا تزال منذ 5 سنوات في إسقاطها.
و مع الصمود السوري و محور المقاومة تحركت روسيا التي لم تتنكر لعلاقاتها التاريخية مع سورية واستمرت وفية لتعهداتها و موجباتها العقدية معها خاصة في المجال العسكري على وجهيه التجهيزي و التسليحي كما و التدريبي و الخبراء ، و رغم ظروف الميدان القاسية التي أنتجها العدوان ، فقد استمر ذلك ضمن وتيرته العادية تقريبا إلى أن جاءت لحظة مفصلية خرج السلوك فيها عن المألوف في العلاقات العسكرية بين الدول ، و اتجهت روسيا إلى المجاهرة بهذه العلاقات و الإصرار على القيام بكل الالتزامات أولا ثم الاستعداد إلى رفع مستواها أيضا بما في ذلك التلويح بإرسال قوات عسكرية روسية إلى سورية للمساهمة مباشرة في معركة الدفاع عن سورية في وجه العدوان الذي تقوده أميركيا .
إن التصرف الروسي السابق والحالي حيال سورية، إنما هو تصرف يستجيب لقواعد القانون الدولي العام التي تضمن للدولة المستقلة السيدة القيام بما تشاء تحت سقف القانون هذا، وأن كل ما ذكرنا من أمور خفية كانت أو معلنة إنما يندرج في إطار الحق السيادي لكل من الدولتين في تنظيم علاقاتهما كما يشاءان، دونما الأضرار بحق أحد، خاصة إذا كانت هذه الأعمال تقع في دائرة الأعمال الدفاعية ولكن رغم ذلك تعلن أميركا عن قلقها « وانزعاجها » من هذا الأمر فلماذا؟
إن مرد القلق أو الانزعاج الأميركي من السياسة الروسية حيال المنطقة عامة وسورية خاصة عائد كما نعتقد إلى ما يلي:
- عدم تقبل أميركا استعادة روسيا لعنوان فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ورفضها أن تستعيد روسيا صفة «قوة دولية عظمى » فأميركا تريد أن تكون القوى العظمى الوحيدة في هذا العالم الذي تحدد هي له قوانينه وقواعد سلوكه.
- عدم تقبل أميركا استمرار نجاح سورية في معركتها الدفاعية ضد العدوان مع ثباتها على مبادئها التي تجاهر بها. وتعلم أميركا أن دخول روسيا وبالشكل الجديد العلني الذي تجاهر به للدفاع عن سورية إنما يقضي على ما تبقى لديها من آمال ضئيلة من تحقيق أهدافها العدوانية في سورية.
- خشية أميركا من افتضاح خداعها في حربها المزعومة على «داعش» ورفضها أن يأتي من يشارك ويدعم حربا جدية وحقيقية ضد الإرهاب ويقدم للجيش العربي السوري ما يمنحه من إمكانات إضافية للانتصار في هذه المواجهة.
- عدم تقبل أميركا رؤية مثلث سوري إيراني روسي ينسق سياسته الدفاعية بشكل تكاملي لا يتيح لاحد إفساده أو إثارة الخلافات فيه، وأن انضمام روسيا إلى البنية الدفاعية لمحور المقاومة سيكون له بالغ الأثر على الساحة الدولية.
- عدم تقبل أميركا ببساطة أن تنازعها روسيا قيادة العالم خاصة من بوابة الشرق الأوسط الذي أرست استراتيجيتها كلها على فكرة كونه مستعمرة أميركية، فثبات سورية في موقعها بعد نجاح إيران في الاحتفاظ بطاقتها النووية السلمية مع المحافظة على استقلاليتها واستمرار حزب الله على سلاحه المقاوم، كل ذلك يقلق أميركا وينبئوها بان مشروعها الشرق أوسطي قد فشل رغم حجم التدمير الهائل الذي أحدثه عدوانها.
إن أميركا لا تتقبل كل ذلك بسهولة لان تحقيقه سيعيد إلى النظام العالمي توزانا فقد منذ ربع قرن ، وهي ترفضه رغم علمها اليقيني بان روسيا و سورية تمارسان في علاقتهما و معهما ايران حقا تضمنه كل الشرائع و المواثيق لكن أميركا لا تأبه لكل ذلك لأنه ترى أن مصالحها هي التي ترسم حدود القوانين، لكن ذلك ورغم الرفض أو القلق الأميركي سيحصل خاصة انه امر يتصل وثوقا بحق الدفاع المشروع عن النفس الذي لا يمكن أن يساوم عليه عاقل ...انه سيحصل و يقود إلى عودة التوازن في العلاقات الدولية و سيكرس نهائيا فشل العدوان الإرهابي الذي تقوده أميركا على سورية و فشل الأحادية القطبية، و هو يشير بوضوح اكبر إلى اقتراب الحل في سورية مع فشل حرب الاستنزاف الأخيرة و استبعاد خطر المواجهة العسكرية بين روسيا و أميركا كليا و اضطرار أميركا لكسر المقاطعة العسكرية مع روسيا و القيام بالحوار المتوازن معها و مع محور المقاومة في نهاية المطاف لتأمين خروج آمن من الأزمة.
* استاذ جامعي وباحث استراتيجي - لبنان