والتصريحات الأميركية الأخيرة المهادنة التي تسجل تراجعاً واضحاً عن مواقفها السابقة، هي محاولة التفاف واحتواء، لن تنجح بالتقليل من أهمية الطرح الروسي الجاد، ولا بالتخفيف من حدة لهجة موسكو التي ساءها ألّا يفهم عليها خصومها وأندادها إلّا بالنبرة العالية والمرتفعة.
بصخب وبمهادنة، أو من دونهما، صار اعتراف أميركا والغرب الملتحق بها بالحضور الروسي المؤثر في العلاقات الدولية، وفي السياسة العالمية، وفي مكافحة الإرهاب، وفي حفظ الأمن والسلام والاستقرار، وفي صياغة وبلورة نظام دولي جديد - صار اعتراف أميركا - بهذا الأثر الإيجابي للحضور الروسي تحصيل حاصل، وأصبح اعتراف أميركا والغرب بالكثير من الإخفاقات واجباً ينبغي عليهما القيام به.
ولعل أهم ما في المبادرة الروسية الخاصة بمكافحة الإرهاب وإيجاد حل سياسي في سورية يحفظ سيادتها واستقلالها ووحدتها، هو أنها لا تلغي أحداً ولا تستأثر بالفعل - وإن كانت في المركز منه - وأنها لا تستعلي على أحد ولا تنكر دوره، وأنها لا تتحرك بدوافع أنانية، ولا تحكم حركتها مصالح خاصة آنية كانت أم استراتيجية، وإنما تنشد تعاون جميع الأطراف - حتى الخصوم والأعداء - وهو ما يؤكد نُبلَ حركتها السياسية ومبدئية تحركها الدبلوماسي، وإن اقتران الحركة السياسية النبيلة والتحرك الدبلوماسي المبدئي بإظهار القوة العسكرية هو لزوم ما يلزم في الحالة النشاز التي سببتها سياسيات البلطجة والغطرسة الأميركية.
بلطجة أميركا وغطرسة سياستها بلغت حدوداً غير مسبوقة، وكذبها ونفاقها وتضليلها تجاوز كل الحدود، ومقامرتها ومجازفتها بالاستثمار في الإرهاب ونشره وتعظيم ظاهرته، وسعيها للهيمنة على الطاقة وخطوطها وعلى الاقتصاد العالمي وساحاته، وعبثيتها بفرض العولمة على العالم، كل هذا وغيره كان لا بد من مواجهته، وكان لا بد من الضرب على الطاولة والتهديد بقلبها لوقفه، ولذلك ربما ارتفعت النبرة الروسية بهدف تصحيح المسارات وضبطها، لا بحثاً عن الاحتكاك الخشن مع ثور هائج متوحش يعربد ويحطم بلا روادع.
ما من أحد يعوِّل على حدوث انقلاب إيجابي طوعي في سياسات العدوان والبلطجة الأميركية، لكن أغلبية ساحقة في هذا العالم باتت تعوِّل على قدرة الحضور الروسي لجهة إحداث فرق في المعادلات والتوازنات، ولجهة القدرة على إلزام أميركا والغرب القبول تحت الضغط بخيارات التعاون والسلام، وإلا فسيكون العالم على مفترق طرق خطير، وستكون أميركا أمام حتمية انكسار قاسٍ.