أي أن الهجرات تلك هي هروب جماعي من سيطرة عوامل الموت البطيء المتزايد إلى حيث مقومات الحياة الممكنة على ضفاف الأنهار ونحو الظلال في بلاد الرافدين والشام ودلتا النيل!
لكن ثروة هائلة من النفط والغاز خرجت من بواطن أرض الجزيرة العربية اليابسة مع بدايات القرن العشرين , وتسببت لمن خلفتهم الهجرات القديمة وراءها في تلك الأرض بعائد مالي أشبه ما يكون بالحلم , عوضهم تلاشي وندرة أسباب الحياة .. لا بل نقلهم من حال الجوع والعوز إلى حال الكفاية والفائض , ومن حال الشلل والعجز الكامل عن إنتاج عوامل البقاء والحياة والحضارة إلى حال القدرة الفائضة على شرائها واقتنائها والتمتع بها دون بذل أي جهد في انتاجها ؟
أتساءل اليوم , ويتساءل مثلي كثيرون , ما الذي يدفع « دولاً « ومجتمعات رعوية وجغرافيات صحراوية خالية مثل هذه .. جافة حتى من مياه الشرب كالمحميات الخليجية , إلى الانخراط المجاني كأطراف في صراعات دولية وإقليمية مجاورة .. ودون أن يستعديها أحد ؟ وما الذي ينقص هذه المحميات , بعد الثروة المجانية , كي تسوغ لنفسها السعي المدمر للحصول عليه ؟ وإذا كان لحكام أكبر هذه المحميات وأكثرها مالاً وتخلفاً كالسعودية طمع ما في مكان ما ومن أجل أحد ما .. فلماذا تنساق معها محميات أخرى كالإمارات والكويت والبحرين وقطر انسياق القطيع وراء الفحل ؟ وما الذي تبحث عنه هذه المحميات ولا تجده إلا في الاعتداء .. أو شراء من يعتدي على الآخرين .. خاصة أن هؤلاء الآخرين ليسوا سوى ما يفترض أنهم الأشقاء وأبناء الجلدة سواء في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وغيرها؟؟
أهو فيض المال الحرام في يدي الجاهل .. أم هو غلبة طبع الغدر والخيانة على التطبع بالتسامح والرقي , أم هو , كما يقول برنارد لويس الأب الروحي والفكري للمحافظين الأميركيين , العجز المزمن والمتراكم عن مجاراة الآخر حضارياً , وبالتالي , الميل إلى شطب هذا الآخر وإلغائه بوصفه مقياساً ومعياراً ؟
لعل كل هذه الإجابات تصلح لتفسير هذه الحالة العدوانية الشاذة أو غير المألوفة لدى تلك المحميات , غير أني أميل إلى الإجابة التي قدمها برنارد لويس , إذ حين يمتلك امرؤ أثمان كل المنتجات الحضارية لكنه يعجز عن إنتاجها بنفسه .. ويرى إلى جانبه أو إلى ما وراء البحار من ينتجها بكفاءة ويسر , يظهر عجز العاجز جلياً كعين الشمس , بل ويتحول من ينتج الحضارة إلى مقياس أو معيار للتخلف , ما يدفع العاجز إلى ما يشبه الانتقام أو إلغاء المقياس الذي يظهر عورته !
لماذا يفعل الخليجيون المحميون ما يفعلونه اليوم في سورية والعراق واليمن سواء بتمويل القتل والتدمير أو بتمرير فكر الجهالة والتجهيل ؟ بل ما حاجتهم إلى ما يرتكبونه .. لو لم يكن إحساسهم بالعجز أكثر كثيراً من قدرتهم على النجاح , صحيح أن أميركا قوية وذكية وخبيثة .. لكن الأصح أن هؤلاء جهلة وحاقدون وضعفاء أولاً !!