فعن أي شيء يمكن أن نتحدث وسط هذه الانهيارات شبه الشاملة? وأي موضوع يمكن أن نناقشه بجدية وعقلانية في خضم هذا الحضيض الذي تهاوى إليه الخطاب السياسي? وأي حوار حول المصالح الوطنية العليا يمكن أن يقوم بيننا وبين هذه القطعان من السفهاء والموتورين والرقيعين والمتهالكين المنفلتين من عقالهم والذين أدمنوا على تدمير الذات وعلى الحروب الأهلية والانتحار السياسي? لكن, ومهما وصلت إليه الأمور, فإن المقاومة الباسلة الشريفة في فلسطين ولبنان والعراق وفي مختلف المناطق التي تسعى إلى التحرر ستبقى (بين الحشا والروح) وستظل معششة في أعماقنا وفي مسرى الدم وفي الجوانح والمآقي حتى لو مارسنا الصمت المطبق.
ولقد وطنت نفسي للكتابة عن كل تلك المهازل التي جرت وعن الاغتيال الجديد الذي جرى في 14 شباط الماضي للشهيد رفيق لكنني شعرت بنوع من التقزز والقرف جعلني أتوجه إلى منحى آخر.
حين شرعت في معالجة المسألة الدينية في صحافتنا المحلية قبل أكثر من عشر سنوات لم يكن الهدف دينياً, كما توهم بعضهم, بل كان سياسياً أولاً وأخيراً, وإنه لأمر يكلم الفؤاد أن يجري نوع من مؤامرة الصمت حول مجمل الأطروحات التي تقدمت بها وعلى رأسها إسلام ما قبل المذاهب... جدلية العروبة والإسلام.. إعادة بناء الفقه الإسلامي... ترجمة القرآن الكريم إلكترونياً... الآرابوفونية..وما إلى هنالك من أطروحات جدية خطيرة وإشكالية. وعلى سبيل المثال فلو أن أطروحة( إسلام ما قبل المذاهب) أخذت حقها من السجال المفتوح فلربما خففنا قليلاً من الاحتقانات المذهبية والطائفية التي ما زالت تنذر بالويلات, لكن الذي حدث أن التيار اليساري كان يتوهم أن لا علاقة له بقضايا الدين, والغالبية للتيار الديني كانت وما زالت مشغولة بمسائل فقهية جزئية محصورة ضمن إطارات مذهبية ضيقة ولم تكن قادرة على الانطلاق إلى الفضاءات الرحبة الواسعة للإسلام, ولم تكن معنية بشكل الصورة التي يعرفها الغرب عن الإسلام.
في حوار مكثف في دمشق مع د. جون كيري كبير أساقفة كانتنبري السابق حول الدين الإسلامي عرضت مجموعة من الوقائع حول الإسلام من ضمنها أن ابراهيم الابن الوحيد للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمه مسيحية قبطية وأن الرسول صلى ا لله عليه وسلم طلب من الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف أن يصاهر قبيلة كلب المسيحية وكانت تلك أول مصاهرة بين قبيلتي قريش وكلب وأن هذه المصاهرة قد أثمرت ولادة الفقيه العالم العابد( أبو سلمة) بن عبد الرحمن, ثم تسارعت المصاهرات من قبل الأمويين خاصة مع احتفاظ الكلبيين بمسيحيتهم, فنائلة بنت القرافصة زفت إلى الخليفة عثمان بن عفان وأبوها مسيحي وقد صاهر الإمام علي أحد الكلبيين المسيحيين على ثلاثة من بناته تزوج واحدة وتزوج ابناه الحسن والحسين البنتين الأخريين فأنجبت زوجة الحسين المعروفة بالرباب سكينة بن الحسين, وأن لقب الفاروق قد أطلقه المسيحيون السريان في سورية على عمربن الخطاب والذي يعني المخلص- فاروقو بالسريانية- لأنه خلصهم من اضطهاد أبناء دينهم.
وأثناء سردي المطول لمجموعة من الوقائع التاريخية سأل غبطته الصديقة د. بثينة شعبان هل ما يقوله صديقنا صحيح? فقالت له إنني لا أقول كلاماً غير موثق توثيقاً كاملاً, فأبدى استغرابه الشديد من جهل الغرب لهذه الوقائع ومن تقصير المسلمين في مسألة نشرها على نطاق واسع في الغرب , والحقيقة إنني لمست هذا الاستغراب ممن حاورتهم من الدبلوماسيين الغربيين, فما الذي فعلناه بأنفسنا?
ولقد كان د. جون كيري وراء دعوة وزارة الخارجية البريطانية لي للحوار مع المؤسسات الدينية في بريطانيا وللمشاركة في مؤتمر ( بريطانيا والإسلام) , وبعد سلسلة لقاءات لمدة أسبوعين في أنحاء بريطانيا وبعد سلسلة حوارات داخل المؤتمر الذي استمر لثلاثة أيام اكتشفت مدى قتامة الصورة التي يحملها الغرب عن الإسلام ومدى خطورة المؤامرة التي تحاك وراء الأبواب المغلقة فكتبت مقالاً فور عودتي إلى دمشق بتاريخ 10/10/1999 تحت عنوان ( اسلاموفوبيا) , بينت فيه أن الإسلام موضوع سلفاً في قفص الاتهام وأن التهم جاهزة وأن على المسلمين أن يحتاطوا كثيراً كي لا يعطوا أعداء الإسلام فرصة الانقضاض عليه, فكان أن وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول بعد سنتين من نشر المقال وحدث ما حدث من غزو لأفغانستان والعراق ناهيك عن التهديد بقيام غزوات أخرى.
ورغم يأسي الكامل من قيام عمل حقيقي يعيد للإسلام صورته الحقيقية, ورغم قناعتي الراسخة ببؤس الأكاديمية العربية والإسلامية العاجزة عن القيام بأي عمل حقيقي , لكن ليس بمقدورنا الكف عن النداء والصراخ وإن كنا نعلم أن لا حياة لمن تنادي.