ووزعوا مسبقاً هباته وخيراته, قد أسقط في يدهم, وهم يجدون رمالاً متحركة تجرفهم إلى حيث لا ينتظرون, وبالتالي يكابرون في فهم الحقائق التي ترسمها على الأقل احتجاجات العالم أينما حل الرئيس بوش, وجدل الداخل الأميركي مع كل فضيحة تنكشف.
وفيما تتحرك الأحداث باتجاهات كثيرة, تبدو بعض المواقف متعثرة في رؤية ذلك التحرك, عندما يخرج عن نطاق الرغبة لديها, أو عندما يسير في اتجاه مغاير لما يخدم تنظيراتها السياسية التي أتحفتنا بها على مدار الأشهر الماضية, وبعضها لسنوات خلت.
وبغض النظر عن الأسباب والدوافع, فإن ما يجري قد تجاوز في توصيفه الحدود المتاحة لموقف مهما كانت ذرائعه أو مبرراته وسط هذا الكم الهائل من المتغيرات كبيرها وصغيرها, ولاسيما حين يكون جزءاً من مفهوم أعم وأشمل تتلاقى فيه أو تتقاطع عنده جملة من التطورات المتتالية, والتي تشكل المشهد القائم حالياً.
فالذين أصروا على خطاب الاتهام, ما زالوا يراهنون على أوهامهم, وأولئك الذين استسهلوا الأكاذيب, ينكبون هذه الأيام على البحث عن قنوات جديدة للاستمرار في أكاذيبهم, والذين سوقوا الأضاليل على مدى سنوات, يلحون على الذهاب بعيداً في متاهتها رغم انكشاف الجزء الأكبر منها.
وهذا الأمر ينطبق على أطراف ذلك المشهد باختلاف تلاوينه, وباختلاف مواقعهم داخله, حتى إن الغالبية منهم التي اجتزأت في أحيان كثيرة الموقف أو الحدث, وحتى المعلومة لتسويق رؤيتها, تحاول المعالجة بنفس المنطق, وإن كان مقلوباً, وغير قابل للأخذ به, وثبت بالدليل القاطع مغالطته للواقع.
والخطير في الأمر أن يكون التعبير عن المأزق الذي يواجهه أولئك مرهوناً دائماً بمؤشرات المشروع الأميركي, سواء بشأن إخفاقاته في العراق, أم بخصوص سلسلة الفضائح التي تطول رموزه الكبيرة قبل الصغيرة, وبالتالي عندما تأخذ تلك المؤشرات مسارها نحو الواقع الفعلي نلحظ تدافعاً مثيراً, وتراكضاً في اتجاهات مبعثرة, كل يبحث عن خلاصه بالطريقة التي يراها مناسبة له.
ولعل صور البحث تلك التي تتجسد بأشكال متعددة تدفعنا إلى الحديث عن الدوافع التي تقف خلف تسريبات متتالية عن الخطط الأميركية المتعددة سواء ما يتعلق منها بتحريك قواعدها العسكرية في بعض الأقطار العربية, وإعادة تجميعها أو توضعها في أمكنة أخرى أكثر ملاءمة لخططها, أم تلك المتعلقة ببحث إنشاء المزيد من السجون العسكرية السرية التي فاحت روائحها في أكثر من مكان.
قد تكون عمليات النفي شكلاً من أشكال التأكيد على الواقعة بصورها المختلفة ولكن النقطة الجوهرية تتعلق بمساحة السقوف المباحة لأولئك اللاهثين خلف العصر الأميركي وتجلياته وصوره التي تتحفنا بها فضائح العصر من كل لون.
لقد برزت في الأفق الصور الحقيقية لعملية صناعة الموقف, وبرزت معها سلسلة من الروايات المعبرة عن سمات ذلك العصر وتقنياته في السياسة والأخلاق, ومع ذلك يستصعب البعض من أولئك أن يجدوا حراكاً مختلفاً, ويكرهون أن يروا الصورة المشوهة لشعاراتهم, وهي تتبعثر في أنماط من السلوك الذي يقدم عليه رموز عصرهم, وهم كارهون, تحت ضغط الحقيقة البشعة.
وهناك بينهم من يجد في كل ذلك عثرات عابرة, دون أن يدركوا أن الصوت المرتفع في الكونغرس الأميركي المطالب بانسحاب فوري من العراق لأول مرة بهذا الوضوح, يعني انكساراً مباشراً, وتصدعاً في بنية الرهان التي تشكلت على مر الأشهر والسنوات الماضية.