أمراض الرأسمالية التي بدت في أغلب الأحيان عارضة أو هكذا سوقت جاءت هذه المرة لتؤشر إلى أمراض شيخوخة متأخرة بأعراضها ومواصفاتها رغم الاعتقاد السائد بأنه من المبكر جداً الحديث عن تلك الشيخوخة.
فالواقع يعكس حالة من الانتكاسة السياسية طالت النظام الرأسمالي في عموميته ونبتت على جوانبها استطالات مرضية عجزت كل المعالجات الآنية عن التعامل معها، وبدل أن تخفف من أعراضها، فاقمت ظهورها إلى أن تطورت إلى أعراض مرضية فعلية نخرت الداخل الرأسمالي وتكشفت عن خواء اقتصادي هزّ أركانه ووصلت أمراضه إلى عظامه..
المحاولات الإسعافية المتلاحقة لم تعط ماكان منتظراً، وكذلك هي الحال في بعض الإجراءات الجراحية، بل على العكس ساهمت في مضاعفات خطيرة تجلت في أطراف هذا النظام بداية، ثم مالبثت أن امتدت إلى عمقه، معلنة بدء منغصات وأوجاع أصابت جذره التاريخي، حين عانت أوروبا امتدادات أزمة اقتصادية خانقة لم تفلح معها كل محاولات العلاج والمسكنات.
ومازالت حتى اليوم تئن تحت وطأتها، وليست أزمة اليونان وغيرها سوى انعكاسات أولية لأزمات في العمق الأوروبي ناتجة عن بنية النظام أكثر مما هي تعثر في هذا الطرف أو ذاك كما يراد لها أن تصور.
على أن التحول الأخطر في أزمة الرأسمالية جاءت من حيث لم ينتظر رواده ومريدوه.. من أحد أهم رموزه في الوقت الحالي والشاهد الحي على الصراع المحتدم في داخله، من وول ستريت.. عندما غطت عدواها شوارع المدن الرأسمالية الكبرى وتشظت في بقاع العالم..
لم تنته المسألة هنا.. بل لم تقف عند هذا المأزق.. ولا هي بمعيار الانتشار إلى حدود غير مسبوقة.. وإن تتقاطع الشعارات أو تتلاقى، حيث الألم واحد.. والوجع ذاته.. والمعاناة تكاد تكون نفسها مع فارق في الحدود والمساحات..
والحصيلة أن الشعارات التي رفعت لم تقتصر أوجاعها على التآكل الذي تعرضت له، بل امتدت لتصل إلى الأخطاء التي تولدت نتيجتها.. وكانت سبباً أو عاملاً جوهرياً من عوامل انفجار داخلي له تداعياته المستقبلية التي أفضت إلى بروز مواجع حقيقية دائمة ومستعصية في الآن ذاته، عبّرت عن نفسها من خلال التظاهرات التي تمتد وتتسع تباعاً.
فإذا كانت شيخوخة النظام الرأسمالي تقتضي في حدها الأدنى الانتظار ريثما ترتسم معالمها بصورة أوضح، فإن أمراضها التي ظهرت ليست أمراضاً مبكرة في تركيبتها، بل تصنف في قائمة أمراض الشيخوخة المتأخرة التي يصبح العلاج معها مستعصياً ليس لصعوبة المرض بقدر ما هو ناتج عن وهن المريض الذي لا يحتمل تبعات العلاج ولا يقوى على الخضوع للجراحات..
بين العلاج المسكن الذي فقد فعاليته وبين استحالة الجراحات تدفع الأزمة النظام الرأسمالي نحو إعلان شيخوخة مبكرة بأعراض مرض متأخرة .. وهي حالة تضغط على الوضع العالمي الذي يسابق رياح التغيير التي هبت من داخله .. ويبدو أنها عاصفة وتهدد باكتساحه .. والعودة إلى إشكاليات الوجود الأولى.
وربما هنا تكمن المعضلة المحيرة في آليات هذا النظام، حيث مشكلاته الوجودية الأولى تطفو على السطح وكأنها وليدة اللحظة، فيما المستجد منها يعطي الانطباع بأنها مزمنة، وبعضها مستعصٍ على الجراحات المستعجلة.. لذلك الهلع المنتظر يكتسح قواعد بدت متجذرة.. لكنها عانت من الاهتزاز بشكل صريح في إعلان مبكر عن بداية شيخوخة حاولت تأخير حضورها ليس إلا..!!
a-k-67@maktoob.com