في الغابة أشجار بلوط وسنديان وغار وسماق وقبور أولياء، حين يصمت الريح، يسكت ورق الشجر كي يتكلم الأولياء فيما يخصهم، إذ يتعارفون،
ويتبادلون عناوين بيوتهم، وأسماء آبائهم، ويحكون لبعضهم قصة البيوت الجديدة في الغابة، حيث الهدوء والسكون والراحة الأبدية، التي لا يعكر صفوها سوى وقع خطى تقترب، وتنهدات على الظلال تنسكب، وصوت نحيب عميق من أمهات جئن يشعلن البخور، ويقرأن الفاتحة، ثم يمضين إلى عالمهن الحزين، هنّ الأمهات اللواتي لا يعرفن كيف ينصتن لهمس الأولياء حين يتبادلون الأسئلة التي تسمعها السماء وحدها (أين استشهدت يا أخي، ومتى، )؟
وترد حجارة الشاهد، المحفور بتواريخ وأرقام يحفظها الأهل عن ظهر قلب.
هنا، تحت هذه البلوطة بيت (مقداد سليمان ) الذي استشهد في دوما وكاد يعرف متى سيغادر هذه الدنيا الفانية، لذلك قال لأمه (آمنة) أرجوك يا اماه لا ترسلي لي ثياب العيد .. فانا راحل والله، لكن آمنة لا تريد أن تصدق . بل نهرته وقالت (كفى، ما هذا الهذيان ؟) ثم راحت تبكي نبوءة ابنها.
لقد تحول الهذيان إلى حقيقة، وجاء مقداد فاتحاً ذراعيه لغابة (عرمتي) قرب ابن عمه ورفاقه من شبان - عرمتي، وديروتان، وباقي القرى المحيطة، شبان صغار لم يتجاوزا الخامسة والعشرين، كلهم جاؤوا إلى الغابة، اختاروا أشجارهم وبيوتهم وودعوا أمهاتهم، ثم ناموا، ناموا بسلام، فقد أتعبهم نعيق الحرب، وشجّ سكونهم عواء الرصاص، فما كان منهم إلا أن قدموا الروح من أجل أن تخمد الفتنة الحارقة ..ومن أجل بلاد الأبجدية والحضارة السامقة.
من يعرف الغابة سابقاً لا يصدق كيف ازدحمت ببيوت الأولياء والقديسين الأطهار، جاؤوا بلا أحلامهم وبلا سنواتهم الصغيرة، عادوا إلى الغابة التي كانوا يلعبون بها ويقرؤون دروس اللغة في فيئها، ويكتبون رسائل الحب الأول على جذوع اشجارها.
هي غابة _عرمتي _ تشبه غابات كل القرى التي أرسلت أولادها الفتيان إلى الحرب، ثم عادوا شيوخاً أولياء وهم في ربيع العمر، استقروا في الغابة التي كانوا يصطادون عصافيرها ويحكون الحكايات عن همس أوراقها، يكسرون (الدوّام - أي ثمار البلوط التي هي من فصيلة الكستناء ) ويأكلونها.
لم يعد في الغابة ممرات للعب، ولا فسحة على جذوع الأشجار للكتابة أو رسم القلوب المحروقة.
ولم يعد هناك حطابون يقطعون أشجارها بعيداً عن عيون الحراس ليصنعوا الفحم لأراجيل السهرات - والمشاوي - في الأمسيات، لقد ازدحمت الغابة بالحراس الأولياء، اصطفوا حول الممرات، أخذوا كل مساحاتها ولم يتركوا سوى بعض الدروب التي توصل الأمهات، حاملات البخور والنار والقلوب المشتعلة.
هي الغابة ..صارت مقراً لعشرات الشبان العائدين من كل أنحاء سورية، ملفوفين بالعلم ومكللين بقلوب الأحبة الذين يحملون ثيابهم ويعودون إلى بيوتهم، تاركين أكبادهم ترتاح في ظلال أشجار السنديان والغار، لكن الأمهات لا يقنعن بأن الشبان نائمون، فيتسللن إلى الحضرة المقدسة ليسمعن الأنفاس الهائمة والأرواح الطاهرة، كل روح تحدث جسدها، وكل جسد يسأل عن روحه، تختلط الأنفاس بالأرواح الخالدة، فتعبق الغابة برائحة البخور الذي يتصاعد بين الضوء والضوء مكللاً الغابة والبيوت، تجزع الأمهات وينادين على أبنائهن، فتردّ أشجار الكون بحنو وحزن (عدن أيتها الأمهات) اتركن الأولياء القديسين في ابتهالهم وصلواتهم، لا تعكرن صفو هدوئهم، لقد تعبت الأرواح في الأجساد الممزقة، وتعبت البلاد من الطغاة والأحقاد، عدن أيتها الأمهات العزيزات الحزينات، اتركن الغابة في هدوئها كي تصعد الأرواح إلى بارئها.
لكن الأمهات لا يغيرن من حزنهن، إذ لا بد أن يأتين حاملات البخور وبعض الثياب والماء، لعل الشهيد عطشان، أو رفيقه بردان، متوسلات إلى الغابة التي كانت ملعباً للطفولة، أن تصير حانية أكثر ولا تشي بالذين يغادرون ظلالها ليسلموا على الدروب والنوافذ ويلقوا التحية على البيوت وأهلها.
إنها الغابة التي كانت نضرة، صارت مكتظة بالأسماء والدموع والأسئلة.