دخلت المكتبة قرب ساحة فيكتوريا، طلعة بوابة الصالحية، ربما لأستظل.. وربما لأضيع وقتاً ريثما يقترب موعد دوامي في الجريدة.. وربما وهذا الغالب اقتداء بفتاتين جميلتين سبقتاني.
زميلنا في كلية الحقوق الليبي، «فتحي» سرق النظر مني.. لم أكن معتاداً على رؤيته في الصيف مع أنه كان مقيماً في سورية.. التقطني على الفور بضحكته الجريئة، هتف لي وهو يومي بيده وفيها الغليون «البايب» الذي لا يفارقه..
بدأت مقدمة معه فيها إشارة أنني مشغول جداً وسأغادر إلى الصحيفة، فهم فوراً.. وقال لي:
• لاتخف.. لن أستوقفك.. ذاهب إلى لقاء سفيرنا.. فقط أريد أن أعرف منك.. هل لديكم في الجريدة تعليمات بخصوص العلاقة مع عبد الناصر..
قلت:
• لا أبداً.. بالعكس نحن نلهث وراءه..
• على أي خط «وضحك»..
• السترة..
• لسنا مكشوفين..!!
• لا أبداً.. لكننا نجد في جهد العربية المتحدة ما يقوي من عزمنا..
• لن نفوت في بازار.. قل لي هل هناك إحساس بأن الرئيس عبدالناصر قد يتماهى مع مشاريع السلام المحتملة..
• اليساريون القريبون من الشيوعيين يقولون ذلك..
• وأنت ماذا تقول..؟!
• أعتقد أن ثمة كثيراً مما يواجهنا ويحتاج لأن «نقول» حوله قبل أن نصل إلى الرئيس عبد الناصر.
تركني واتجه إلى أحد الرفوف يتابع عناوين الكتب.. كان مثقفاً، قارئاً جيداً، وعريف حفلات من النوع الممتاز..
استغليت انشغاله عني وسألت صاحب المكتبة.. عن كتاب «عبدالناصر من حصار فالوجة إلى الاستقالة المستحيلة..»
قال لي:
• غير موجود..
• لماذا؟
• لا يسمحون به..
• نحن وعبد الناصر في أحسن علاقات اليوم.
• لا تصدق.. يمدون له يداً وفي الأخرى خنجر..
كان فتحي يسترق السمع فاتجه إلى صاحب المكتبة وقال له:
• مددنا له يدنا فوجدنا كلتا يديه مشغولتين كل منهما بخنجر..
رد صاحب المكتبة وبدت واضحة مناكدة الصداقة:
• دخيلك أنت شو بتفهم بالسياسة..
• أنت بياع كتب.. أنا أقرؤها وأنت تجمع المصاري..
• أنت ما بقي عندك شيء تبيعه..
رغم الطابع الممازح، بدا الزعل على فتحي..
حوّل صاحب المكتبة الحديث مستغلاً انشغاله لبعض الوقت في الرد على طلبات الفتاتين.. قال لي:
• شو صار بصاحبنا..؟!
• من..؟!
• هذا الشاب الصحفي المثقف خريج القاهرة..
• منذر عامر..
• نعم..
• ترك الجريدة..
• تركها أم تُرّك..؟!
بدا واضحاً أنه يريد أن يستمر الحديث لمجابهة فتحي في الحوار.. كان منذر عامر ناصرياً بامتياز، وهو فلسطيني الجنسية بجواز سفر أردني خريج جامعة القاهرة قسم صحافة، عمل معنا في أرشيف صحيفة الثورة.. وكان سلساً في حديثه غنياً بالمعلومات الثقافية البانورامية ولهجته مصرية دون أي شائبة. وغالباً يتلقى الناس حديثه برغبة وحب ومنهم صاحب المكتبة.. هذا إضافة إلى أنه زبون كتب مميز وقد زرنا أنا وهو هذه المكتبة أكثر من مرة.. والحقيقة التي لا يمكن نكرانها أن إدارة الثورة أنهت التعاقد معه لأنه كان يضع صورة عبد الناصر على مكتبه.. وأعترف اليوم أنا دون خوف.. أنه سألني:
• هل هناك مسؤولية في وضع صورة عبد الناصر هنا..؟
قلت:
• لا.. أبداً.. نحن في أحسن علاقات..
أخطأت أنا التقدير ودفع منذر الثمن.. على أنه لم يقاطعني ولم يحملني أي مسؤولية ثم غادر سورية ولم يعد..
على عكس ما توقع صاحب المكتبة، لم يقم فتحي للحكاية كبير الاعتبار.. حتى لا يستفسر.. وبصراحة رغم انتمائه لحزب البعث العربي الاشتراكي.. كان منطلق الفكر والعقل.. لكنه يتجاوز الحدود في تعامله مع الآخرين..
خرجنا معاً أنا وهو.. وفاجأني أنه اتجه لمرافقتي رغم ادعائه أنه ذاهب للقاء سفيرهم.. تحدثنا عن معارك تجري مع إسرائيل.. عبر قناة السويس.. وعبر خطوط وقف إطلاق النار مع سورية.. وعبر العمل الفدائي.. وسألته:
• هل يكفي هذا للتحرير..؟!
• العمل الفدائي وحده يكفي..
• استنزاف العدو ضرورة..
• أعرف إعجابكم بذلك.. معارك لا تغيب عن مانشيتات صحيفتكم.
• أيضاً العمليات الفدائية لا تغيب..
• هنا الأمل.. حرب التحرير الشعبية وفقط..
• يا رجل، القضية أكبر من ذلك..
• الجيوش النظامية لن تستطيع أن تفعل.. وهي تستهلك الموارد.. هل تعرف كم دفعنا لتحصين الجبهة..
كنا قد خسرنا خطوط جبهتنا الحصينة بحرب 1967 وعلى خطوط وقف إطلاق النار الجديدة كانت تجري عمليات تحصين الجبهة بجهود آلاف العمال.
تلك الفترة عرف الشارع العربي الاتجاهين.. اتجاه الدعوة للتحرير عبر حرب تحرير شعبية وكنا نغني لفيتنام في مقاومتها للأميركان.. واتجاه التحرير عبر الحرب النظامية وشعارنا ما أخذ بالقوة، لن يسترد إلا بالقوة.. وكانت مقولة الرئيس عبد الناصر الذي كان كثيرون يشيرون إلى أنه بدأ لعبة السلام.. وكانت مدانة من الجميع تقريباً..
لم تكن القيادة السورية على موقف واحد من ذلك كله.. لكن طيف الرئيس عبد الناصر كان يوحدها.. أما صحيفتنا فلم تجد من يوحدها.. ولم تنفع شهور المرحوم عدنان البغجاتي الخمسة أو أقل من خمسة في إظهار هوية إعلامية لها.
as.abboud@gmail.com