اليوم نحن في محنة اشتد أوارها، وازداد الذين يلقون الحطب في أتون نارها، بعضهم من ذوي القربى وأخوة في الدم والتراب وهنا المرارة، وآخرون كانوا يعدون ويخططون لها منذ عقود وقد كانت لهم الفرصة السانحة هؤلاء نعذرهم فيما يقومون به، لأنهم أعداء والغون في دمنا وتاريخنا وحضارتنا، يريدون أن نبقى أسرى أفكارهم وألا نغادر عبودية احتلالهم و لم ييأسوا أو يستسلموا يوماً من الأيام، نعم هؤلاء نعذرهم لأنهم الأعداء، ولكن ماذا عن هؤلاء الذين هم من أبناء الوطن؟!
لن نذهب بعيداً في تفاصيل ما كان وما آل إليه أبداً لأنني على قناعة تامة أن الحرية لا تأتي من باب الغريزة الجنسية المكبوتة، ولا من همجية جاهل يذبح على الهوية ولا تأتي بأوامر من مشيخات النفط أبداً... وفاقد الشيء لا يعطيه أبداً.... وإلى ما في القائمة من مفردات ودلالات ،اليوم وسورية تلملم جراحها، وتبلسم ما كان ، جراح أكبر من خارطة وطن، وآلام أبعد من يوم وليلة، أرسخ من أن تداوى عقابيلها بلمسة سحر... كيف تبدو... كيف ترى نبض الشارع ووقع الحياة...؟!
هل علينا أن نصغي إلى محطات سفك الدم السوري ونيأس ونعلن أننا قد خرجنا من دائرة الحياة اليومية وإيقاعها... يوم شتائي مع نسمات برد تحمل عبق الثلج من سفوح جبل الشيخ، ومن قمم الزبداني وبلودان، ومع دفء قليل ينساب مع خيوط الشمس إلى أديم الشام، وردة الله على الأرض... بدأت أغذ السير في شوارع دمشق مشوار يومي اعتدت أن أقوم به من سنوات، لم أتخل عنه أبداً بسبب طارئ مني وإنما حالت ظروف العمل دون أن أنفذه بشكل مستمر، ولكن لا بأس من اغتنام فرصة سنح بها يوم الخميس....
من دوار كفر سوسة سيراً على الأقدام باتجاه السوق العتيق مروراً بأزقة ملأتها السيارات المنتظرة صيانة أو المركونة بانتظار موعد ما... عابرون يتدافعون يتدفقون بشكل سريع، وجوه مألوفة، ليست غريبة عنك يوم انتظار(الباص) الذي افتقدناه، ليست بعيدة عن طابور طويل أمام نوافذ الأحزان، وجوه تطالعك أمام بائع الخضرة، هذا يتحدث مع صديق لم يره ربما من أيام من سنوات، حرارة اللقاء التي يترقبها من بعد تدلل على ذلك...
صباح يضج بالحياة وعبقها... لا شيء تغير أبداً، هنا على رصيف موازٍ للسوق بائع الحمضيات نفسه من سنوات يحتل زاوية ربما صار لونها برتقالياً... صوته الدافء يغريك الثلاثة بمئة.... تتوقف تشتري وعلى نصيحة أخي لا تعرفه ولا يعرفك لكنه يقول لك بكل الود: خذ ولن تندم، هي أمور بسيطة، عابرة، دافئة نعم، متراكمة نعم، نسيج اجتماعي ربما فتقه آخرون لكنهم لم ولن يستطيعوا أن يوسعوا الحزن أبداً...
في الطريق تقرأ في الوجوه ألف حكاية، وتبدو علائم ألف رواية وتسأل بحرقة: هؤلاء أبناء شعبي؟
كلهم طيبون، مسالمون، كلهم عطاء ومودة وإخلاص فمن هؤلاء الذين يذبحون ويدمرون، ومن هؤلاء الذين لا نعرفهم ويضرمون النار في حقولنا....؟
من أتى بهم إلينا؟! كيف ابتلينا بشذاذ الآفاق من فتح كرومنا وأبوابها للدببة والخنازير؟!
اطمئنان لا يغادرك أبداً لأن إيقاع الحياة وإن تضاءل قليلاً لكنه هو، هو المحنة فرزت ورتبت أولويات، ربما اغتالت البسمة الطافحة عن الوجوه، لأن الدعاء الذي يتبادله كل سوريين حين يتحدثان عن الغلاء عن المعاناة يقول: اللهم فرّج، وفك ضيقنا....
أغذ السير باتجاه أرصفة هي للحلم، للأمل، للكتاب المدفون قهراً في مستودعات... في الطريق عدة ثانويات ومدارس... طلبة في المراحل الدراسية المختلفة ينتهزون لحظة الانصراف قليلاً... أرقبهم عن بعد، حياة تنبض في قلوبهم في عيونهم، عصافير تملأ المكان الصاخب، أصلاً لن نستطيع أن نقول هذا ابن دمشق، أو ذاك ابن ادلب، أو درعا، أو اللاذقية، زمر، زمر، يتهامسون، يمشون معاً يضحكون، فتياناً وفتيات، يقفون أمام واجهات المحال، بعضها دور نشر، وأخرى عابقة بأطاييب المعجنات.. فجأة يرتفع الصوت من شاب في المرحلة الثانوية ضاحكاً وبصوت مملوء بالحياة: علي الطلاق يا شباب اليوم علي... يرد الآخر بالأمس كان عليك نعم وغداً علي.. ضحكات بعضها يملأ المكان وبعضها الآخر على استحياء...
هؤلاء هم أبناء وطني، شباب اليوم، رجال الغد، أرى فيهم حقول قمح متماوجة، أبطالاً يصونون حدود الوطن، أطباء، مهندسين، علماء، مدرسين، أراهم سورية المستقبل، لن ننكر أن في قلوبهم جراحاًو وآلاماً وأنهم قاسوا، وذاقوا مرارة هدايا العربان، لكنهم أبناء الحياة، أبناء الوطن، أبناء الأمل، لأنهم أبناء سورية.
هؤلاء جيل يعد بسورية المتجددة دوماً، نسغ الحياة أينما وليت وجهك في سورية، أما الغربان فلا بد أن تعود إلى خرابها من حيث أتت، نحن منذرون للأمل، للعمل، للحياة، للبقاء، للحب للإنسانية هؤلاء هم يومنا وغدنا ووجه سوريتنا
d.hasan09@gmail.com