فاذا ضربت الامة احدى النوائب, وما اكثرها, يسارعون الى اعلان النصر لتحليلاتهم وتنبؤاتهم, واذا أصابت نجاحا في أمر ما يتجاهلونه أو يحطون من شأنه ولا يعتدون به, آلوا على انفسهم أن يغرفوا أبدا من بحر اليأس والاحباط الذي اصطنعوا بعضه بأنفسهم, فلا يهنأ لهم بال حتى يذكروا المواطن العربي صباح مساء بكل النكسات والنكبات التي حلت بأمته من عصور الانحطاط حتى العصر الاميركي الراهن مبشرين بقرب فناء العرب أو تحولهم في أحسن حال الى عبيد في مملكة اسرائيل الكبرى.
وبطبيعة الحال, فإن امثال هؤلاء يجدون مكانا فسيحا لهم في الصحف العربية أيضا, فينشرون ظلاماتهم بين المثقفين اذا اعتبرنا ان التلفزيون هو لعامة الناس بينما تتوجه الصحف للخاصة التي يفترض أنها على درجة اعلى من الوعي والثقافة. وما يجمع بين هذه الصحف تركيزها الشديد على ما لدى الخصم من نقاط قوة وعلى ما يعتري الحالة العربية من أوجه ضعف لدرجة يكون من العبث معها الحديث عن مبادرة عربية ولو قطرية لاختراق هذا الظلام الدامس أو على الاقل اظهار أي ممانعة ازاء مخططات الخصوم.
وعدوى الاحباط سرعان ما تنتقل عبر الحدود وتتوسع دوائرها لتصبح هي الطابع الاساسي لكل معاينة أو تقييم في أي شأن من السياسة الى الاقتصاد الى الرياضة وحتى الثقافة والاعلام.
وبطبيعة الحال ثمة نموذج معاكس, يرى أصحابه ان كل الامور بأحسن حال, وليس ما يدعو للقلق ولو هددت اميركا وتوعدت اسرائيل أو حتى خربت البصرة. يهونون كل امر ويصطنعون من كل ضائقة مخرجاً, وفي كل مكاسرة يؤكدون ان العدو لابد أن يندحر وأن المستقبل لنا والهزيمة مطبقة على الخصم من كل بد صارخين: ألا ترون أنه يتخبط بأزماته .. انتظروا لتروا كيف ستدور عليه الدوائر, عندها سيندم لكن ساعة لا يفيد الندم.
كلا النموذجين هما من فئة الرداحين والنواحين المبشرين بالسراب. فلا منطق يعتد به يستندون اليه, ولا تحليل علميا يؤكد ما يذهبون اليه, انهم يكتفون بإطلاق الاحكام العامة المنفلتة من كل رقابة علمية أو معالجة عقلانية, ويتعب المرء بلا طائل اذا حاول مجاراتهم أو الرد عليهم, مثل العاقل يحاجج جاهلا .. اذا غلبك ضحك عليك واذا غلبته ضحك عليك.
وقد لا يكون من المبالغة القول ان الكثير, بل ربما جميع مظاهر التأخر والضعف التي نعانيها افراداً ودولاً مردها بقدر أو بآخر غياب العقل النقدي الذي يكيل بميزان, فلا ينفلت فيبشر بالاوهام ولا ينقبض فلا يرى الا الكآبة والسواد. ومن عظيم الاسف ان الكثير ممن يتنطحون للكتابة أو يعملون في وسائل الاعلام العربية ينتمون بدرجة أو اخرى الى أحد هذين النموذجين اللذين يقدم كل منهما وعيا زائفا للمواطن العربي بشأن همومه وهموم امته, وكثيرا ما تثبت الوقائع ان المواطن البسيط غالبا ما يتقدم بوعيه على كل فرسان الكلمة والفضائيات.