طبعا تعلمون جميعا أن في الشارع حديثا عن زيادات محتملة في الأجور.. وهو ¯ بصراحة ¯ حديث لا ينتهي.. ويندفع بتأثير عاملين اثنين.. أولا الانخفاض الشديد في الأجور بشكل عام.. وثانيا حركة الأسعار التي تظهر بين فترة وأخرى قفزات متسارعة ونحن نعيش اليوم مثل هذه الفترة..
وأبدأ من نقطة يجب أن أصلها عندما أستكمل دائرة هذا المقال تقول: إن زيادات في الأجور اليوم تشكل خطوة ليست مهمة وحسب بل ضرورية جدا في إطار الخطوات المتخذة للتحول إلى اقتصاد السوق وفق الرؤية التي يمكن استشفافها من مواقف الحكومة والفريق الاقتصادي الذي يقود ما يعرف بالتحول إلى اقتصاد السوق.
المواطنون يربطون زيادات الأجور بما يتلقونه من معلومات إعلامية عن اتفاقيات الشراكة الدولية والإقليمية والثنائية.. وكثيرون من متابعين ومعنيين يربطون بين الإعلان عن التوجه إلى اقتصاد السوق وهذه الشراكات.. لكن.. في رأينا أنه لا إصلاح الأجور وزيادتها ولا التحول إلى اقتصاد السوق كان بسبب الشراكات.. وإن كان ليس بمنعزل عنها.. بل.. لعلي لا أغالي إن بدلت المواقع لأقول إن الاتجاه إلى اقتصاد السوق ¯ وأعزل هنا سياسة الأجور وزيادتها عن الأمر¯ هو الذي دفع إلى التفكير بالشراكات والسعي إليها..
أصل الفكرة هو حائط السد الذي انتصب أمام الحياة الاقتصادية السورية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي.. والذي طرح بوضوح اختلالات واعتلال المسيرة الاقتصادية.. ومنذ ذاك التاريخ ظهرت تلميحات نظرية إلى ضرورة الخروج من القوالب التي حكمتنا لفترة من الزمن.. ظهرت حتى في خطابات الرئيس الراحل حافظ الأسد..
وعلى الصعيد العملي فإن المعالجة بحيثيات وشروط السوق لمشاكل اقتصادية بدأ أيضا منذ ذاك التاريخ.. وإن كان بشكل انتقائي وبسيط.. نذكر مثلا معالجة حالة سيطرة التهريب على عملية الاستيراد للأسواق السورية وفقدان السلع بكل أنواعها من هذه الأسواق في منتصف الثمانينات.. وقد حاولت الحكومة يومها المعالجة بالقمع الأمني للتهريب.. ورويت حوادث مضحكة ومؤسفة عن تلك الحملات لكن ما كان مؤكدا وبعيدا عن الرواية , فهو أن تلك الحملات عجزت عجزا كاملا عن تقديم الحل لفقر السوق ولنشاط التهريب الشديدين يومها جرى تغيير حكومي.. والحكومة الجديدة اتخذت مجموعة قرارات لتحرير مجموعة نشاطات تجارية )استيراد وتصدير) والاستيراد بشكل خاص .. وصناعية أو شبه صناعية من احتكار الدولة لتعيدها إلى السوق.. وأدت هذه القرارات وبسرعة كبيرة إلى إغناء السوق وكبح جماح التهريب للكثير من السلع ذات الطبيعة الضرورية اليومية.
إن ما تم يومها من تحرير جزئي للتجارة الخارجية يشكل عملية خصخصة حقيقية وواضحة إنما بخجل.. وكان الأفضل الاستغناء عن الخجل وإعلانها خصخصة بشروطها الكاملة السليمة.. لأن هذه الخصخصة الخجولة اكتفت بالنشاط التجاري دون المؤسسات مما أفقدها محتواها..
ثم جاء صدور القانون 10 وكانت خطوة أهم على طريق الخصخصة تتابعت بعدها الخطوات.. لكن.. لم يتجرأ أحد على أعلام الاشتراكية.. واستمر التحويل الرأسمالي بشعارات وأدوات التحويل الاشتراكي حتى العامين الأخيرين.. حيث صدرت نصوص أكثر وضوحا في الاتجاه إلى اقتصاد السوق وقامت مؤسسات خاصة تؤكد ذلك..
لكن الإعلان عن هذا التحول تم متأخرا.. والإعلان مهم بحد ذاته.. لأنه نوع من الشفافية.. وهو ضرورة ملحة كي تقرأ الناس الإجراءات والخطوات المتخذة على أساس هذا التحول وليس على أساس السائد سابقا..
وفي رأينا يلزمنا مزيداً من الشفافية في هذا الاتجاه كي لا يلتبس الأمر على أحد.. فكما يقول الدكتور عامر لطفي وزير الاقتصاد والتجارة: ليس هناك نسخة واحدة لاقتصاد السوق..
وبالتالي نحن نصنع نسخة اقتصاد السوق السورية.. وكل الخطوات لاتمام هذه النسخة يلزمها الكثير من الحوارات والنقاش للوصول إلى المناسب فعلا لنا.
وأرى واضحا أن النسخة السورية المزمع إقامتها لا تتنافى مع دور للدولة.. ولا حتى مع دور كبير للدولة.. ويجب ألا تتنافى معه..
لكن..
أن تمارس مؤسسات الدولة عملا اقتصاديا استثماريا في جو من المنافسة يتيح لها ذلك.. فهذا ممكن وجيد وضروري وليس من المحسوم أن تخسر مؤسسات الدولة دائما في هذه المنافسة..
منافسة مؤسسات الدولة أفضل بكثير من فهم الأمر على أساس أنه فرض رقابة الدولة وصايتها الإدارية المتحجرة على القطاع الخاص..
رقابة دولة .. نعم لكن.. كيف? وبأي أسلوب?
بالقرار الإداري مع المنع والردع وال¯ ...?!
أم بالفهم والتفاهم.. وبالقضاء إن صعب ذلك .. القضاء هو المؤسسة الأهم لممارسة رقابة الدولة ومحاسبتها..
أعود إلى ما بدأته لأقول: إن عملية زيادة أجور يمكن أن تتم حاليا.. هي فعلا خطوة مهمة على طريق إصدار نسخة سورية متميزة لاقتصاد السوق.