إنها لحظة تاريخية تشير إلى نهاية تحرك بدأ منذ سنوات، فأنقرة أصبحت تقف على مسافة من حليفتها القديمة لتقترب أكثر من العالم العربي ولكي تصبح قوة إقليمية سياسية واقتصادية نرى اليوم تركيا تتحرر من دبلوماسيتها التقليدية، فلم تعد العضو المعتدل في حلف الناتو المقرب من الولايات المتحدة والمرشح للدخول إلى الاتحاد الاوروبي والموقع على اتفاق استراتيجي مع إسرائيل، بل هي تتطلع اليوم إلى موقع دبلوماسي قوي كالبرازيل وأندونيسيا ودول أخرى في طريقها إلى إحداث تغيير في علاقات القوى الدولية.
وبالنسبة للرأي العام العربي فإن الموقف التركي هو موقف مميز بعد الهجوم الإسرائيلي على سفينة الحرية. والمبادرة التي قامت بها منظمات تركية وحملت اسم (فك حصار غزة) لم تخف أن هدفها سياسي بقدر ما هو إنساني وفي ذلك تسجيل نقطة ضد إسرائيل.
الأهم من ذلك أن المنظمات التي حملت المساعدات للفلسطينيين ما كانت تستطيع القيام بذلك دون موافقة الحكومة التركية.
أنقرة هددت بقطع العلاقات الدبلوماسية إذا لم تعتذر إسرائيل رسمياً وترد الاعتبار لعائلات الضحايا وتقبل فتح تحقيق دولي، وقد اتهم أردوغان في خطابه الإسرائيليين بذبح الأبرياء بدم بارد، ومع أنه لا يمكن البت بشكل قطعي في علاقات الدول، إنما العلاقات التركية الإسرائيلية لن تعود إلى ما كانت عليه منذ زمن طويل. وبالنسبة للإسرائيليين فهذا انقلاب تام ونهاية عهد كانت فيه أنقرة الحليف الرئيسي لهم داخل العالم الاسلامي منذ قيام إسرائيل، حيث كان مؤسسوها قد اعتمدوا بشكل رئيسي على تركيا وإيران في المنطقة إلى أن جاءت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وأنهت علاقة إسرائيل بطهران بينما بقيت العلاقات مع تركيا قوية، لدرجة أنه تم توقيع اتفاق تعاون استراتيجي بينهما عام 1996.
لكن بعد الغزو الأميركي للعراق ووصول حزب العدالة والتنمية إلى القيادة برزت تغيرات في المجتمع السياسي التركي، وبدأت هذه العلاقات بالتدهور مع غياب التقدم في المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية ومع المسيرة الجديدة للسياسة التركية الخارجية التي تحررت من خطوطها التقليدية، فتركيا اليوم لاعب كبير في الشرق الأوسط وسياستها مميزة مع الجيران المباشرين إيران والعالم العربي، وعلاقاتها أفضل مع اليونان وأرمينيا إضافة إلى أنها دبلوماسية مصالح وطنية، إذ يقال عن أردوغان إنه لايسافر إلى مكان إلا مصطحباً معه مجموعة من رجال الأعمال، فالحركة الاقتصادية التركية تشهد اليوم نشاطاً أكثر من أي وقت مضى.
ومع سورية لم تتوقف العلاقات عن التطور منذ زيارة الرئيس بشار الأسد إلى تركيا عام 2005 لتصل بعدها إلى مستوى عال جدا على جميع الصعد. كما لعبت تركيا دور الوسيط والراعي للمفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل حيث اعتقد أردوغان أنه يستطيع القيام بدور حقيقي للتقريب بينهما، لكن نهاية عام 2008 الذي سجل الهجوم الإسرائيلي على غزة كان بداية للتوتر بين إسرائيل وتركيا عندما عبّر البرلمان التركي عن صدمته جراء قيام الجيش الإسرائيلي بهذه الحرب، كما عبّر أردوغان عن صدمته في وقت كان يسعى فيه لإطلاق الوساطة بين إسرائيل وسورية.
ومع الفلسطينيين أيضاً تغدو العلاقات أكثر ودية، كما اتخذ قراراً في شهر أيار الماضي بتدريس اللغة العربية في المدارس التركية.
الترحيب العربي بدور تركيا اليوم لم يسبق له مثيل وقد أصبحت تركيا نوعاً ما أنموذجاً بالنسبة للعرب اليوم، ففي استفتاء قام به معهد تركي تابع لمؤسسة اقتصادية واجتماعية ودراسة موسعة في سبع دول عربية جاءت النتيجة أن تركيا تحظى بتقدير كبير في العالم العربي بنسبة 75٪ منهم 63٪ يرون أنها نجحت في التوفيق بين الإسلام والديمقراطية في الوقت الذي يجدون أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيقوّي إحساسها بأنها أقرب إلى الشرق الأوسط.
ولكي تصبح فاعلاً رئيسياً في المنطقة فقد تحررت بطريقة ما من الوصاية الأميركية وأعادت التوازن لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وأردوغان الذي يقيم علاقات جيدة مع طهران أغاظ واشنطن عندما أطلق وساطته مع البرازيل بشأن الملف النووي الإيراني، فتركيا العضو في حلف الناتو والمرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي لاتريد لها واشنطن دوراً أو ثقلاً في الشرق الأوسط ولهذا فإن العلاقة مع واشنطن أصبحت حساسة ونستطيع أن ندرك السبب وراء توعّد الكونغرس لتركيا وهو مواقفها الأخيرة حيال إسرائيل.