فإسرائيل,ومنذ إنشائها ,لم تواجه يوماً تحديات مصيرية تتعلق بالدعم الدولي أو بوضعها الاقتصادي ,بل كانت معضلتها الوجودية تتمثل أساساً في علاقتها مع محيطها,و صراعها مع أصحاب الأرض الذين استولت على وطنهم,وانشأت كيانها على حساب حقوقهم الأساسية ومصالحهم الاقتصادية وهويتهم الثقافية وانتمائهم القومي.
إن أحد أهم الأسباب التي تقف اليوم عائقاً في وجه نجاح المشروع الإسرائىلي هو التناقض المتفاقم يوماً بعد يوم بين الأسس الإيديولوجية التي قامت عليها الحركة الصهيونية ,وبين السعي الحثيث لإكساب إسرائىل صفات الدولة الطبيعية كمرحلة لاحقة لمرحلة التأسيس الاستثنائية.
فإخراج إسرائيل من حالة الطوارئ الوجودية يتطلب تخلياً متزايداً عن تأثير الحركة الصهيونية الذي يقف عائقاً دون تعيين الحدود النهائية (للدولة) ويحول عملياً,وبصيغ مختلفة,دون وضع دستور لإسرائيل ,لأن مثل هذا الدستور لا يمكن إلا أن يقر,كما في كل دساتير العالم,بأن جميع المواطنين متساوون أمام القانون,ويتمتعون بالحقوق والواجبات ذاتها,وهو ماسيفضي في النهاية إلى اعتبار جميع القوانين العنصرية في إسرائيل غير دستورية.
لقد باتت مسألة التناقض بين الدولة والحركة موضع نقاش صريح في الأوساط الأكاديمية الإسرائىلية,وقد كان البروفيسور أمل جمال, أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب هو أول من سمى الأمور بمسمياتها وأخرج هذا التناقض إلى حيز العلن ,ففي ندوة عقدت في معهد (فان لير) في القدس المحتلة مؤخراً لمناقشة كتاب (سلام متخيل) من تأليف(ليف غرينبرغ) الذي يشغل منصب رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة بن غوريون في النقب, أشار البروفيسور جمال إلى أن هناك فروقاً حادة في الواقع الإسرائيلي بين مؤسستين ,الدولة من ناحية ,والحركة الصهيونية من ناحية أخرى,فأحد ركائز الدولة -حسب جمال - هو وجود حدود واضحة من شأنها أن تصوغ استمرارية السيطرة على أراضيها كلها ,بينما ترفض الحركة الصهيونية أن تضع لنفسها حدوداً ثابتة ,وتسعى للتوسع قدر المستطاع ,وإسرائيل منذ قيامها تتصرف كحركة لاكدولة,لهذا تحافظ على حالة الطوارئ السائدة والتي تسوغ أشكال العنف الفتاك الذي تستخدمه.
إن مسألة التناقض بين الدولة والحركة لاتنحصر ضمن النطاق النظري والأكاديمي ,بل إنها تمثل مفترق طرق مصيري,يتوجب على الكيان الإسرائيلي أن يحدد خياراته إزاءها,فتخلي إسرائىل عن التأثير الإيديولوجي والسياسي للحركة الصهيونية يعني عملياً هز الأسس التي قام عليها المشروع القومي الاستيطاني الإسرائىلي في فلسطين,فهو يفقد إسرائىل مبرر وجودها بوصفها الحل القومي لما يسمى بالضياع اليهودي في(الدياسبورا) أو الشتات .
أما استمرار الحالة الاستثنائية للكيان فقد أصبح يمثل عبئاً ثقيلاً على كاهل الإسرائىليين الذين كشفت حرب تموز الأخيرة نزوعهم القوي نحو حياة مرفهة على النمط الغربي ,وتهربهم العملي من الخدمة العسكرية التي بات واضحاً أنها تشكل ثمناً باهظاً لاتريد الأجيال الجديدة الاستمرار في دفعه ,فالأمن الذي قامت الحركة الصهيونية بهدف تأمينه لليهود في فلسطين بات اليوم أكثر مايفتقده سكان إسرائىل,الأمر الذي يمثل مفارقة وجودية تلقي بظلالها الثقيلة على المشروع الصهيوني.
لقد كانت حرب تموز عام 2006 بمثابة المرآة التي أظهرت للإسرائيليين العديد من العيوب الخلقية لكيانهم المصطنع,ودفعت إلى واجهة الوعي السياسي والأكاديمي الإسرائيلي بعض المشكلات الوجودية التي طالت رغبة الإسرائيليون بتجاهلها والتعامي عنها,وهو ماظهر واضحاً في النقاشات الفكرية التي شهدها مؤتمر هرتزليا السنوي في العامين 2007و2008
مع حلول الذكرى الستين لإنشائه ,يبدو الكيان الصهيوني أعجز من أن يتغلب على المعضلات التي تفرضها العوامل والمحددات التاريخية والديمغرافية والجيوستراتيجية ,ويبدو أن الكيان سيكون مضطراً في مستقبله القريب أو البعيد لتقديم تنازلات مؤلمة ليس على صعيد الأرض فحسب ,بل على صعيد مفاهيم الهوية والوعي بالذات القومية ورؤيته لصيرورته التاريخية.