غياب الغرض الاستراتيجي من الحرب:
لقد أدى التدخل السياسي المستمر في هذه الحرب إلى أن تسير دون غرض استراتيجي محدد, فالحكومات العربية لم تظهر بوضوح الغرض الحربي من هذه الحرب, بل كانت الأغراض المؤقتة تعطى للقيادة في الميدان هاتفياً أولاً بأول, وقد نتج عن ذلك ارتباط القائد بالأراضي التي احتلها حيث إنها أصبحت الغرض الوحيد الواضح أمامه, وتعرضت القوات العربية للاشتباك في عمليات لا لزوم لها إلا المحافظة على هذه الأراضي, كما كان الجنود يسألون دائماً عن الغرض من الحرب ولاسيما في الفترات الأخيرة من العمليات وقد كان لذلك تأثيره القوي على الروح المعنوية والمقدرة على القتال.
فالدرس الأول: هو أن الغرض من الحرب يجب أن يوضحه السياسيون جلياً ومفصلاً وفي وقت مبكر, ثم يترك أمر التنفيذ بعد ذلك للعسكريين, يتصرفون فيه بحريتهم دون تدخل من أي جهة أخرى.
الدرس الثاني: فقدان مبدأ الحشد العسكري والسياسي:
لم تكن للحكومات العربية عام 1948 سياسة قاطعة حيال المشكلة الفلسطينية قبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين, ومع ذلك أنشىء معسكر للتدريب بالعريش في تشرين الأول ,1947 وكانت القوة التي تعمل به عبارة عن (كتيبة من المشاة وكتيبة مدافع وعندما ظهرت بوادر تخلي الحكومة البريطانية عن انتدابها في فلسطين طلبت رئاسة الجيش ( في شهر آذار 1948), عدة طلبات حتى تمكنت من تجهيز قوة مجموعة لواء كاملة للتدريب استعداداً للتدخل في فلسطين (15 أيار 1948), ولكن جميع هذه المطالب لم يستجب في الوقت المناسب لها, بسبب عدم البت في خطة سياسية ثابتة للحكومة في ذلك الوقت.
إضافة إلى غياب مبدأ المفاجأة ومبدأ التعاون محلياً وعربياً وفقدان مبدأ الاقتصاد في القوة, وغياب مبدأ العمل الهجومي وانهيار الروح المعنوية في بعض الأحيان.
باختصار إن الباحث المحايد في أوضاع المنطقة العربية يرصد الآتي على مسار العمل العربي العسكري والسياسي:
تفتقد الدول العربية ولاسيما والمحيط منها بالكيان الصهيوني على وجه- مبدأ التعاون في حده الأدنى اقتصادياً وسياسياً, ويزداد الأمر فداحة إذا وصلنا إلى التعاون العسكري, فالموجود منه يشكل هامشاً هلامياً دون مضمون فعلي, من هنا تتشابه أوضاع المنطقة العربية, ودول المواجهة للكيان الصهيوني تحديداً- وإلى حد بعيد- مع أوضاع عام ,1948 بالإضافة إلى تردٍ جديد متمثل في الاتفاقات والعلاقات الخاصة مع إسرائيل والتي أضرت العرب ولم تفدهم بدءاً من كامب ديفيد ,1979 وحتى زيارة ليفني للدوحة .2008
إن غياب الحد الأدنى من التعاون العربي المشترك بين المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية العربية, أدى إلى فقدان مبادىء استراتيجية بديهية في نطاق قتال العدو من قبيل (مبدأ الحشد- خفة الحركة الاستراتيجية- غياب مفهوم الأمن والاقتصاد في القوة), ويلاحظ بالنسبة للمبدأ الأخير أن الدول العربية لاتنتهج- على سبيل المثال- تنسيقاً في مسألة التسليح العسكري, إذ نلحظ وجود دول لديها فائض عسكري هائل دون وجود بشري حقيقي بل أحياناً دون حاجة حقيقية.
ولعل الناظر للمشهد السياسي الفلسطيني الآن وبعد مرور ستين عاماً على حرب ,1948 والتي تواضع العرب على تسميتها ب ( النكبة), لايحتاج إلى كثير عناء ليصل إلى نتيجة مؤكدة يقول عنوانها ( ما أشبه الليلة بالبارحة), بل ربما كانت (الليلة) أشد ألماً وظلاماً, على مستويات عدة, فإذا كانت حرب ,1948 قد انتهت و78% من فلسطين تحت سيطرة العصابات الصهيونية (كما كانت تسمى في الأدبيات العربية وقتها) الآن قد ضاعت بأكملها, وتتم المساومة عليها في المفاوضات المستمرة منذ ,1993 حتى اليوم (2008), ولم يعد منها شيء, هذا على المستوى الأول, أما على المستوى الثاني أن الحرب انتهت يومها بعد ثلاث هدنات والعرب- كلهم- رافضون الاعتراف بإسرائيل رغم هزيمتهم ونكبتهم, اليوم الكثير من العرب يعترفون بإسرائيل رغم أنها هزمت على الأقل في إحدى جبهات قتالهم المؤثرة قبل عامين ( حرب الصيف بين لبنان وإسرائيل).
إلا أن السؤال الآن, وبعد 60 عاماً من الحرب والصمود والمقاومة وبعد 9 حروب متتالية مع هذا العدو, ما القراءة الجديدة للحرب في ضوء أحداث وتطورات السياسة العربية اليوم? سوف نحاول هنا أن نعيد القراءة بهدف أخذ العبر من خلال محاولة الإجابة عن سؤالين رئيسين الأول : ما المشهد السياسي العربي قبل بدء الحرب مباشرة عام 1948? وما أوجه تشابهه مع المشهد السياسي العربي الراهن(2008)? والسؤال الثاني: ما الدروس المستفادة من حرب 1948 من المنظور المعاصر والذي نعيشه اليوم في لعام 2008?
الأمة عشية الحرب
يمكن إجمال العوامل التي أثرت في الموقف العسكري والاستراتيجي لحرب 1948 قبل بدء العمليات مباشرة, من وجهة النظر الرسمية, والتي تشكل سيناريو عاماً ( لمنطق الهزيمة عسكرياً) في الآتي:
1- رفض العرب لفكرة بدء العمليات الحربية داخل فلسطين قبل يوم 15 أيار ,1948 نظراً لبقاء فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني حتى ذلك التاريخ, ما يجعل تدخل أي قوات عربية قبله اعتداء على الدولة صاحبة الانتداب.
2- إن القادة العرب رأوا أيضاً أن تردي الأوضاع والآراء داخل الأمم المتحدة, بعد الموافقة على تشكيل هيئة إشرافية لفلسطين في تشرين الثاني ,1947 ثم اختلاف الدول العظمى وقتذاك على طريقة تنفيذ وتشكيل هذه الهيئة, يشجع على القول : إن دخول قوات عربية في فلسطين عقب انتهاء الانتداب مباشرة وقبل قيام الهيئة الدولية المزمع تشكيلها للإشراف على فلسطين لن يعتبر انتهاكاً لحرمة ميثاق الأمم المتحدة.
3- كان من الحسابات المحتملة عسكرياً أيضاً أن عدد السكان اليهود في فلسطين في ذلك الوقت الحالي هو نحو 700 ألف نسمة يمكن تجنيد 60 ألفاً منهم في أنحاء المستعمرات الصهيونيةجميعها, وكان المحقق أن لديهم 25 ألف مقاتل من الهاغاناه, علاوة على جماعات إرهابية أخرى أهمها (أرغون زفاي لئومي) بين (3000) و(5000) مقاتل وعصابة (شتيرن) التي لا يتجاوز عددها بضع مئات, وتتركز معظم قوات اليهود الرئيسية حول تل أبيب والقدس و حيفا.
باختصار إن ثلاثة عوامل هي التي عجلت بالنهاية الدرامية لأحداث 1948:
1- تواطؤ بريطاني مع الصهاينة بتسليمهم بعض المناطق الاستراتيجية دون قتال.
2- عدم الالتزام وغياب التنسيق بين الجيوش العربية .
3- تصاعد الضغوط الدبلوماسية الأميركية والغربية من جراء المقدرة الصهيونية على استثمار الوضع الدولي العام لمصلحتها ولا سيما داخل الأمم المتحدة( وهو ذاته الموقف المعاصر اليوم مع خلافات شكلية بسيطة في المواقع والأسماء والخنادق!!).
أخيراً نستطيع القول: على الرغم من كآبة الصورة العربية ا لحالية وتشابهها مع صورة ,1948 إلا أن جوانب مضيئة آتية من غزة وجنوب لبنان والعراق وثمة نصف كأس ممتلىء رغم ظلام النصف الفارغ, وهذا هو الرهان الحقيقي لأمتنا التي لاتزال ترفض القبول بنتائج النكبة.
كاتب ومحلل سياسي مصري