لعل من أهم محاولات غاستون باشلار(1884-1962)أكثر الفلاسفة الفرنسيين عصرية,في إيقاظ العالم من غفوته تلك,الدعوة إلى التحرر من كل ما يحد طاقات التذوق الجمالي لملتقى الإبداع,فالاهتمام بعلم الجمال والتخييل برز لديه في الجزء الثاني من حياته,بعد ما كان واحداً من أهم المختصين بفلسفة العلوم,وليشكل كتابه(التحليل النفسي للنار)مفاجأة كبيرة للأوساط الفلسفية المعاصرة له.إذ يمثل تحولاً من دراسة العقل إلى دراسة عمل المخيلة.لذا لن يستغرب القارئ اهتمامه بعلم نفس الخيال,كما التحليل النفسي لصور هذا الخيال..بالإضافة إلى كتابه السابق,تأتي بقية كتاباته لتحتفي بعناصر الطبيعة الأربعة,ونادراً ما سوف تخلو عناوينه من ذكر أحدها,مثل(الهواء والرؤى)و(التراب وأحلام والإرادة),(الماء والأحلام) موضوعنا وغيرها..إذاً هناك(الماء-الهواء-التراب-النار)العناصر المادية والأربعة,مصدر تشكل الصور المادية,أي صور الخيال المادي..الخيال الذي يركز عليه باشلار في كتاب(الماء والأحلام-دراسة عن الخيال والمادة)..فمن خلال تحليله لكثير من الصور الشعرية وحتى النثرية يسعى إلى تطوير علم نفس الخيال(المادي)عن طريق دراسته منطقة أحلام اليقظة التي تسبق التأمل (لأننا نحلم قبل أن نتأمل)هادفاً من وراء هذا إلى تجديد وسائل وأدوات النقد الأدبي بعيداً عن تقليدية القراءات..لكن ..ما سرُّ اهتمامه بالعناصر الأربعة,وعلى وجه الخصوص,الماء,مادة كتابه هذا..يقول(ولدت في بلد السواقي والأنهار,في بقعة من مقاطعة شامبانيا العامرة بالوديان..إن أجمل مسكن في نظري هو ذاك الذي يقع في جوف وادٍ..كانت متعتي أيضاً في مرافقة السواقي,والمشي على طول الحواف,بالاتجاه الصحيح,اتجاه الماء الجاري,الماء الذي يقود الحياة إلى مكان آخر..).
ماء يقود الحياة إلى مكان آخر..إلى حلم أجمل..إلى تكوين أهم أحلام يقظتنا,ولهذا فمن الطبيعي لمن ولد في مثل هذه الطبيعة أن يكون مشبعاً ومتشرباً الأهم خصائص عناصرها,متأثراً بصفاتها..وبالتالي سنجده يطلق الكثير من الصفات على مائه..المياه الرقراقة..الربيعية..العاشقة..العميقة..الميتة..وهناك ماء الطهر..والماء الأمومي..
في اقتفاء باشلار للصور المتولدة عن المياه بكل تجلياتها وأنواعها,يتخذ العديد من العقد الأدبية المعروفة مرتكزاً لفهم وتفسير الصور الإبداعية الأخرى المتفرعة عن الصورة الأصل..فالماء الذي هو عنصر ولادة وحياة يتبدى عند شاعر مثل (إدغار آلان بو )ماء موت,هو ماء ثقيل,أعمق وأموت.ذلك أن الصورة المهيمنة على أشعاره هي صورة الأم المحتضرة-الماء في نظر ( بو) يجب أن يمتص العذاب الأسود(إذ لم يعد الماء ماهيةً نشربها),بل هي ماهية تشرب,فهو يبتلع الظل مثل شراب أسود)..النبات موظف في حلم يقظة(بو) لإنتاج الظلّ,وبهذا قامت المياه لديه بوظيفة نفسية (امتصاص الظلال ومنح قبر لكل ما يموت فينا كل يوم).
وهكذا فالماء عند (بو) دعوة إلى الموت ,تقوده إلى عقدة (كارون),ملاح مركب الأرواح في نهر الموتى في العالم السفلي,وبذات الوقت إلى عقدة (أوفيليا) خطيبة هاملت التي انتحرت غرقاً,وطفت جثتها على سطح المياه.كلا العقدتين ترمزان إلى الرحيل الأخير عبر الماء..ومع هذا فالماء هو مادة حلم اليقظة المتناقض كما يؤكد باشلار..هو مادة حياة,وهو أيضاً مادة موت.هو عند أوفيليا,كما يقول شكسبير (بيئتها الخاصة)..وعنصر الموت الفتي الجميل المزهر,فالموت في ماء هادىء ملامح أمومية..ماء أمومي,وماء موت,بذات الوقت.
يستشهد باشلار هنا بقول يونغ:(رغبة الإنسان هي في أن تصير مياه الموت القاتمة مياه حياة,أن يصير الموت وعناقه البارد حضناً أمومياً..).
ماء أمومي..هو عينه الماء الذي يبتلع الظل..هو الماء المرآة لكل ما في الطبيعة,للغابة..للسماء..ولكل عنصر طبيعي آخر.
جميعها تتمرّى,تتأمل صورتها في الماء,وكأنها نرجس كوني(العالم هو نرجس شاسع مستغرق في التفكير بذاته).هذا النوع من النرجسية الكونية المعممة يحول الكائنات كلها إلى زهور(فالزهور كلها تتنرجس,والماء في نظرها,وسيلة النرجسية الساحرة).
على الرغم من تنوع وغنى تلك التفسيرات لورود عنصر الماء في الصور,إلا أن (المياه لا تبني أكاذيب حقيقية,إذ يجب أن تكون النفس شديدة الإضراب حتى تنخدع حقاً بشبح النهر..).
ليس لها صلابة صور التراب أو حياة صور النار النشطة..ومع هذا يبقى الماء-كما يرى باشلار-من أكبر مقومي الفكر البشري..تقويم نقاء.
الكتاب :الماء والأحلام - المؤلف:غاستون باشلار - ترجمة:د.علي نجيب إبراهيم - صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بيروت