عناوين مثيرة تناولت مواضيع جريئة قلما فعلها الفكر العربي واقترب من الجسد في الطريقة الفلسفية والفكرية التي تناول بها الكاتب ابراهيم محمود الجسد حيث قدم (دراسات مقاربة) مهمة في كتابه (وإنما أجسادنا... إلخ... ديالكتيك الجسد والجليد) . إن قراءة متمعنة في المكتوب والمقروء, أو المسموع, أو الملموس تاريخياً, أو في ما خلفته البشرية من آثار مادية ومعنوية, وفي ما تراه العين من مظاهر سلوكية بشرية, وما يخص التحريم والتحليل في العلاقات بين الناس, أفراداً وجماعات, إن ذلك يؤكد من خلال حركية الجسد. أي أن قراءة الإنسان في كل ما يعنيه ويعاني منه , يكون من خلال الجسد.
الاسم والرسم والوشم
لا يكتسب الجسد خاصيته الإنسانية إلا من خلال اسم , الاسم تحديد وتمييز وتمايز, عندما يسمى يعنون إرشاداً إليه بما يميزه باسمه, خلاف الحيوان, الذي ربما يعرف بعلامة ما ظاهرة, الاسم يتجاوز الجسد ويعرف به دون التركيز على شكله أو حجمه, إنه يدخله في الفضاء المعنوي. وإذا كان الاسم تقنية توصيف الجسد, إملاء المقدس لاحتوائه في حالة عماته, وجعله مكشوفاً, خاضعاً لسلطة المسمى به. فإن الوسم لا يبتعد عنه كدالة تضحوية رمزية كذلك, الوسم يتداخل مع الاسم, وينافسه على صعيد التجلي, حيث يخضع لسلطة اسمية من نوع آخر , سلطة مقروءة كعلامة ملحوظة, الاسم يحمل الجسد, ويستوعبه معنى ويسوده تعبيراً عن رغبة كامنة, أما الوسم فاسم عملي في الجسد, إنه يترك أثراً في مكان ما منه.. فالوسم في حقيقته أثر حيواني, علامة تمييز للحيوان الموسوم عن باقي الحيوانات, وأن يسم أحدهم جسماً بشرياً,لغرض ما, هو أن ينذره لسلطة مرهوبة الجانب, بقصد حمايته وتحصينه , من أي شيء, مما يخشى جانبه..
العين في معادلة الجسد
ولأن العين تستنطق الجسد ولأن المرأة وصفت على أكثر من صعيد بالساحرة والمسكونة بالأثريات الشيطانية, لذلك ضبطت جسدياً كثيراً- وتدخل العين في مجال تقنية الرؤية فنظرتها عورة.
العين الميدونرية تذكرنا بذلك, ثم شهوة فاضحة تتقدم النظر, وتوقظ الجسد كلياً أحياناً- العين تعري حقيقة الجسد أحياناً لذلك أمر الرجل المرأة أن تغض النظر قبل كل شيء, وأن تخفي عينيها أحياناً, وضبطت العين لصالح ما هو جسدي ذكوري, والعين الأنثوية أكثر المنافذ إغوائية وإغرائية, فهي مرآة شفافة ذات وجهين, إنها موسيقا ملحوظة جاذبة, ولهذا يخشى جانبها كثيراً. اعتبرت العين لذلك شاهدة على الجسد, على طراوته ونقاوته و بكوريته, أو على شقاوته لها, لغتها أو خطوطها البصرية.
الجسد, الرقص والقناع
أليس الجسد في الرقص والقناع يبتغي الارتقاء بمعناه وخلق معنى خارق , هو معنى لمعنى لم يكتشف عنه مادياً, فلا بد من الكشف عنه من خلال وسائل أخرى بقصد السيطرة على المكان أكثر , والارتحال إلى المستحيل ? لنقل بصيغة أخرى سؤالياً : أليس الجسد من خلال الرقص والقناع يجادل المستحيل بالممكن, لقد قيل الكثير في الرقص وعنه بخصوص رمزيته, وبخاصة فيما يتعلق بالعمل, وقيل الكثير في القناع وعنه, بخصوص وظيفته المطقسنة, أو الطقوسية, أو الشعائرية...
يشكل الرقص لمن يتمعن فيه, ترجمان الحب, وهو لا يترجم هنا سوى قدراته الكامنة فيه والمخبأة! إنه يحاول أن يوصل له, أن يثبته في أرض الواقع, فالرقص يعلم الآخرين, ويؤكد لذاته , ما يرغب فيه, وبما يود الانتقال إليه من صعيد الواقع إلى صعيد الطموح الرغبي يصبح الجسد في وضع كهذا ( متلقزاً ) لما فيه من طاقات مستمراً لرأسماله المادي ( قواه الذاتية ) ورأسماله المعنوي (طاقته الروحية ) التي تحمل علامة فارقة اجتماعية في الصميم.
الراقص لا يهز جسمه.. إنما يضغط على قواه , يستثمرها ويسخرها في مهارة واحدة هي مهارة الرقص. هذه المهارة التي لا تستهدف تحقيق غاية رغبية, ( شهوية) عابرة, أو المشاركة في طقس جماعي واجتماعي, إنها تسعى إلى قهر البعد المادي للجسد إلى تجاوز محدوديته كقوة مادية, وتحويله إلى فعالية موجهة ,أي أن الرقص في طبيعته ليس حركة, إنها هو, قيمة موظفة ومستثمرة اجتماعياً وفردياً. فصاحب الرقص في الوقت الذي يشارك الآخرين في ممارسته هذه اللغة ( الجسدية ) , يحاول تجويد الحركة, إنه يجدد ذاته رمزاً, هو خلق مجال قوة, ومجال سيطرة على المكان والارتقاء بفعالية الجسد المادية, وتجعلها متعالية, والتعالي يفهم هنا في معناه التوثبي, في تجريد الجسد من كل مقيد لقواه الكامنة فيه.
وضمن فصل حمل عنوان ( الرقص المقدس- مصادرة الجسد الديونيزوسي- تراجيديات عنف) قدم ابراهيم محمود بحثاً مطولاً ومعمقاً لمفهوم الرقص ولدلالاته الجسدية والاجتماعية والطقسية. حيث بدأ بحثه بسؤال ما علاقة الرقص بالقداسة?وما هي المهام التي يؤديها الرقص المقدس? بماذا كان يرتبط قبل هذا أو ذاك ? وهل هناك ( قراءة) جديدة, ذات نزوع فلسفي, المفهوم الرقص المقدس? وخلال بحث آخر عنوانه (الجسد والزمن... الميراث التيولوجي الشرقي) طرح تساؤلات جديرة بالوقوف عندها مثل - إلى أي مدى, وكيف نستطيع تفكيك علاقة الجسد بالزمن, في دلالاتها المختلفة? أن نتعرف على علاقة الجسد بالزمن , أو الزمن بالجسد, هو أن نقارب تاريخ هذه العلاقة, وكيف يمكن أن تكون علاقة متوازنة ومخصبة. يكشف ابراهيم محمود كل ذلك على أرضية التاريخ ومن خلال الذاكرة التي تؤرخ لهذه العلاقة أن هناك نوعاً من الانفصام التاريخي, نوعاً من الانزلاق في تاريخ مجمد توقفت فيه وبه وعليه الذاكرة في إطارها العربي ....
- الكتاب وإنما أجسادنا / المؤلف ابراهيم محمود - صادر عن وزارة الثقافة في 262 صفحة.