فصاحب العطر لم يكن روائياً فحسب وهو قد كتب الكونتروباص والحمامة, كان قاصاً بارعاً وعلى نحو خاص ولاسيما في (ثلاث حكايات وملاحظة تأملية) حيث الزخم القصصي في نصوص رشيقة هي أقرب إلى مناخ الأفكار والاختبارات المعرفية والأخلاقية والحدسية المتعلقة بتحولات المصائر الإنسانية وبأسئلة المصير والوجود, إذ يستبطن- زوسكند حساً نقدياً فلسفياً لصورة الحياة المعاصرة بمنحى تهكمي ساخر وموجع ومفارق وطريف, ثمة تشويق يدفع به ولاسيما حين يضع قارئه في النص, ربما ليحرز استجابة قارئ حقيقي, ففي قصته بحثاً عن العمق يبرع في إثارة قضية يقارب فيها علاقة الفن بالنقد, فالمغزى الذي ينطوي عليه ما قاله ناقد لفتاة ترسم لوحات جميلة في أول معارضها هي موهوبة لكنها تفتقر إلى العمق, سينفتح ليس في أسف الناقد على نهاية الفنانة درامياً بالانتحار, بل في انتباهه لتمردها الذي يحفر في الذات حلزونياً لتهزنا من الأعماق وغمزه من قناة المؤسسات التي لا تشجع المبادرات الفردية في الحقل الإنساني بشكل خاص, فرغم بساطة القصة ظاهرياً إلا أنها تذهب بعيداً لتطاول نقداً شاملاً لا يختزل بالنقد الفني مثلاً فثيمة (العمق) هي الطبقة الموارية المنكشفة في طبقات سرد زوسكند وسوف تتجلى كهاجس عالي النبرة متعدد ذي طيف واسع.
وفي الصراع لا يقودنا زوسكند إلى مجرد لعبة شطرنج تقليدية بين شاب وعجوز (بطل محلي) إنه يقودنا لرؤية فتحتدم المصائر, وتستعار من قاموس الحرب عبارات وتراكيب تشي بحدوث معركة واترلو جديدة, خطوط الخصم,ساحة الوغى, وهكذا لكن المفارقة أن هزيمة البطل المحلي( العجوز) الذي قرر أن يكف عن لعب الشطرنج وسيلعب (البولة) البريئة التي لا تتطلب اعتبارات أخلاقية كبيرة, هي في الاختبار الأخلاقي كمساحة من معرفة يستدرجنا إليها الروائي.
ويأتي نصه الأكمل في (وصية المعلم موسارد) في رهانه على استجابة القارئ بالمعنى العاطفي, وفي وفرة تقانات نقدية من مثل (القارئ في النص) والتناص والإشارات الثقافية, والترجيح, وحرية اللعب بالعلاقة بين (الراوي والمروي له) والتردد.
قصة مؤسسة على شخصية موسارد في اعترافات جان جاك روسو »موسارد المنشغل بلا انقطاع باكتشافاته الشاذة, وإن لم يكن لسعود عقله فلنحوس أصدقاؤه الذين أحبوه لو يأتي الموت ليخطفه منهم بالمرض النادر والوبال) فهو يقتبس عن روسو نهجه في الاعتراف وامتلاك الشجاعة ليبصر الحقيقة وليقدر على تحملها والحقيقة مرض موسارد بالشلل التصدفي هذا يقودنا لنقف على حقيقة الصدف ونشأتها وصولاً إلى حقيقتها »الافتراضية) التي سيفضي بها موسارد لقارئ مجهول يخاطبه ويحذره »لا تثابر على القراءة إذا كنت تخشى الحقيقة ارم هذه الوريقات إذا كنت ترتعب أمام المطلقات, فالجهل هو السعادة الوحيدة الممكنة في هذا العالم) وليفاجئ قارئه الافتراضي بحقيقة أن العالم صدفة تنغلق على نفسها دون رحمة أو شفقة ليعترف ويعترف, مهلاً فهو ليس مجنوناً هو صديق عقول ديدرو وفولتير وروسو مع أن وجه الحقيقة كما رآه مرعباً كمرأى رأس الميدوزا.
والصدفة التي سيتكلم عنها ويتساءل عن تكونها أخفق كثير من الفلاسفة في تفسير كينونتها الجوانية, وقدرها الأصلي ستصبح فضاء إنسانياً يحيل إلى النهاية الكاملة تحجر الإنسان يبدو للعيان أكثر مع تقدمه في العمر, فجلده يتقشر وشعره يتقصف تتكلس عروقه ويتكور شكله حسب البنيان الداخلي للصدفة, وحده ابن سينا الفيلسوف العربي الذي وجد زوسكند قرينة لديه على طاقة التحور الحجري, ومع ذلك يظل سؤاله من أين تأتي طاقتها? ولماذا تتبدى بطريقة محددة وما هو أكثر فزعاً من تقوقع الكون هو تحور جسدنا المستمر إلى عنصر الصدف يقود إلى الموت المحتم, ولطالما أنه رأى الصدفة عندما أسري به من حديقته إلى الظلام فهوى إلى العمق ليرى كتلة سوداء انفلقت لتكشف سرها, فهو لا يدعو لعبادتها ويبشر بالخلاص فقط يقول إن الإنسان لا يحيا إنه يموت كما مات السيد موسارد وبقي متحجراً في جلسته بعد انقضاء فترة تصّلب الموتى الاعتيادية ولعل زوسكند أراد شيئاً من الطرافة ملاحظته التأملية عن فقدان الذاكرة الأدبية بعيداً عن خيال نهاية العالم, فهو لا يستطيع تذكر الكتب التي غيرت حياته, وينقل السؤال لمستوى أعمق »لماذا أعيش, إذا كنت أعرف أنني سأموت) وربما لم يكن أمر القراءة كما مع الحياة مع التحولات والتغيرات الفجائية على كل هذا العمق, وربما يفطن إلى الكلمات المفردة التي تتدفق من ظلال نص يزداد غرابة عليه, تتوهج في لحظة القراءة كمذنبات لتهوي للحال في تيار نهر النسيان المعتم, فالقارئ المصاب بفقدان الذاكرة الأدبية يتغير بفعل المطالعة, وبفعل الجهات المختصة بالنقد في دماغه, وعليه يجب ألا نغرق في نص ما كليا, ما يشبه الوصفة السحرية يحرض»زوسكند) قارئه على الارتفاع فوق النص بوعي ناقد, وأن يستخلص منه أفكاراً وأن يدون كما دون في ذاكرته إلى الأبد سطراً من قصيدة مشهورة سقط اسمها واسم مؤلفها من ذاكرته ,عليك تغيير حياتك.
زوسكند وقف على مسافة واحدة من جوزيف كونراد صاحب قلب الظلمات , وعلى الأرجح أنه لم يبتعد كثيراً عن روسو وأورويل وجيمس, لكنه في حكاياته هو الأكثر كثافة ليجعل النسيان ممكناً والكشف ضرورياً إذا ما اضطررنا لنقرأها من جديد.
الكتاب: ثلاث حكايات وملاحظة تأملية - الكاتب: باتريك زوسكند - الترجمة عن الألمانية: كاميران حوج - الناشر: منشورات الجمل- ألمانيا