وضمت هذه الندوة نخبة من القوميين العرب ومن أقطار مختلفة لا شك أن مثل هذه الدعوة ومثل هذا الشعار ومثل هذا اللقاء في هذا الزمن العربي الصعب ليل كامب ديفيد وتداعياته في المنطقة واشتداد الهجمة الامبريالية الأمريكية على المنطقة مباشرة عبر الاحتلال العسكري في العراق, و عبر الأدوات الأمريكية في لبنان وغيره من المناطق العربية
أقول: تملك هذه الدعوة وهذه الندوة كل مشروعيتها وأصالتها وعروبتها أيضاً لم نطلع ولم تتطلع الانساق الثقافية المختلفة على ما دار في الندوة وكان يمكن أن تقام بعض محاورها في المحافظات الأخرى, كما كان من الممكن زيادة التغطية ونقل بعض حوارات هذه الندوة ونشر بعض محاورها ولاسيما العنوان حساس وهو تجديد الفكر القومي وما يختزنه ذلك ومن رؤى ومناهج وأساليب وطرق ودور للأحزاب والمنظمات والنقابات محلياً وعربياً في الإضاءة على هذه العناوين وإيصالها جماهيرياً, ذلك أن قيمة أي فكر تغييري أو تجديدي هو في قدرة إيصال الأفكار و الأنساق الاجتماعية المختلفة عبر صيغ في الخطاب والمقاربة ولكل مقام مقال.
أقول ذلك: لأطرح جملة من التحديات التي يواجهها الفكر القومي وهو يعاني ما يعانيه من انكماش وضعف وانكسار بعوامل ذاتية بأغلبها تعود لطبيعة النظام العربي وتركيبه ودوره والأخرى أسباب خارجية يعرفها الجميع وعلى رأسها المشروع الصهيوني الأمريكي وترتيبات المنطقة لهذا الدور.
وأنا أؤكد على العوامل الذاتية وأدواتها فيما تواجه المنطقة ولو قدر وهذه فرضية أن يكون الوعي القومي والمسؤولية القومية حاضراً لدى النظام العربي وبالحد المقبول لما استطاع المشروع الأمريكي أن يحدث كل هذا الارتباك في المنطقة.
إن الاحساس بالدونية الحضارية لدى أغلب مكونات المجتمع العربي على الأقل خلال القرن العشرين ومنجزاته الكبيرة الاحساس بالتأخر التاريخي وتأخر عجلة التقدم العربية التي لا يزال الكثير منها في مناطق من الوطن العربي يعيش مرحلة ما قبل الدولة في علاقاته وسلوكه ونمط تفكيره من قبلية وعشائرية وطائفية وانشغال في هذه الدوائر الضيقة وما تنتجه من محليات وصراعات وردات فعل تلغي الحد الأدنى من الوطني فكيف القومي?!.
تبع ما سبق وكان نتيجة طبيعية له فشل وتعثر عملية التنمية الاقتصادية التي تمحورت بنوع من التبعية والاستهلاك ونهب ثروات النفط وزيادة المديونية ومعدلات التضخم وعدم وجود استقلال نقدي وغياب الحدود المطلوبة من التكامل الاقتصادي العربي والسوق العربية المشتركة وحولت أزمة النفط الى أزمة مالية وأزمة ديون, واليوم هي جزء من أزمة اقتصادية عالمية . لم يسمح بقيام صناعة عربية حتى لأدوات بسيطة كالسيارات وبعض تقنيات الانتاج النباتي أو الحيواني وبقية السوق العربي مجالاً مفتوحاً لكل ما يصنع في الغرب.. وهذا أثر على تطوير الانتاج الزراعي العربي وبقائه في حالة خامات التصدير و زادت سيطرة الشركات العابرة على مفاصل رئيسة ومهمة في الاقتصاد العربي, وغداً الاقتصاد العربي بأغلبه تحت رحمة , وتوجيه صندوق النقد الدولي.
وعلى الصعيد الاجتماعي أدى هذا الوضع الى خلل بين القطاعات الاجتماعية, وزيادة الشرخ في البنى الطبقية, وظهور طبقات من الرأسمالية الطفيلية , يقابلها فئات مهمشة اجتماعياً, وما تؤديه هذه القضايا جميعها من انشغال للمواطن في تأمين رغيفه عن التفكير بما هو وطني, أو قومي حيث سقطت أغلبية الطبقة الوسطى الحامل الاجتماعي للثقافة, وللدور الحضاري, والأكثر من ذلك ذهبت هذه الطبقة الى نوع من العزلة والمحافظة, وغاب دورها التنويري الكبير.. الذي نهضت به في مرحلة من المراحل, ويجب أن يعود لها هذا الدور.
أمام هذا المشهد الرمادي يتجلى دور المفكرين القوميين والانساق الثقافية القومية,.. والأحزاب والتجمعات, والهيئات الاجتماعية التي تحمل الفكر القومي وتؤمن به طريقاً وخلاصاً ودائرة أرحب وأوسع مما يشتغل عليه من دوائر ضيقة قطرية تصل حتى مستوى تكريس الانتماء العائلي الضيق.
إن السيرورة النقدية الدائمة لمسار العمل القومي, وقراءة تجاربه المختلفة بروح علمية ناقدة, وتلمس داخلي عميق لمكامن الضعف, وبنياته المجتمعية, والثقافية, يبرز أسئلة عديدة ومشروعة يجب طرحها وتحليلها وكشف الاجوبة الواضحة عنها.. هل النهوض القومي هو مرحلة شهدتها الاقطار العربية أو بعضها بعد الاستقلالات الوطنية, في الخمسينات والستينات ولم تستطع أنجاز مهامها? تأتي نكسة ,1967 واسقاط نتائج حرب تشرين , وخروج مصر, وغزو لبنان, وحربا الخليج , والواقع الفلسطيني وسواه كنتائج لانكسار المشروع القومي ....?! هل انعدام مقدرة المشروع القومي على حل قضايا التنمية والقضايا المجتمعية , وهي أساسية جعل الجماهير تبحث عن طريق آخر ? منه نمو الاتجاهات الأصولية والذي كان أمراً طبيعياً امام انكسار المشروع الاشتراكي السوفييتي بأسبابه الذاتية والموضوعية, وإخفاق المشروع القومي عربياً برحيل الرئيس عبد الناصر, وما آل إليه الوضع القومي في بلاد الشام وتحديداً في العراق, والعراق قوة قومية كبيرة, عبر سياسات النظام , وتداعيات الاستهداف الخارجية ليؤول وضع العراق الى ما هو عليه اليوم, وتبقى سورية آخر معاقل العمل القومي , وسط هذه التحديات, واختلاطاتها..
إن حجم الاختراق الثقافي والاستهلاكي لمجتمعاتنا العربية, وحجم الغزو الثقافي العولمي عبر الفضائيات ووسائل الاستهلاك الأخرى, يكاد يلغي كل أصيل في الثقافة, والإحياء, والقومية عبر الإشغال الإعلامي الفضائي الراهن للملتقى العربي, يؤدي به الى التردد والضياع.
إن الايمان بالقضية القومية وإيقاظ الأحاسيس والوجدانات لنصرتها, ليس كافياً, ولا بديلاً عن التشخيص العقلاني, والعملي, وبناء رؤية متكاملة للواقع القومي, وتفاصيله الأرضية البنيوية الاجتماعية.. إن مقتضيات التجدد القومي تعني دراسة البنى العربية الأسرية, والمجتمعية, والادارية, والسلطوية, والدينية , وغيرها القائمة في تكوين التراتب الاجتماعي العربي, وموقع هذه البنى, وثقافتها, وميلها, وإعادة وعيها بالضرورات القومية, لقد غدا إحياء المشروع الثقافي العربي, ضرورة وحاجة, وتقديم خطاب قومي يحمل لغته,مقدرة تأثيره خارج المباشرة من الخطاب,والشعارات والدعاية, خطاب قادر أن يصل عقول الجماهير ووعيها, يوازيه عمل سياسي للقوى القومية, وأحزابها,ومنظماتها أكثر التصاقاً بهموم الجماهير العربية, وقضاياها, وأكثر قرباً وتحالفاًَ مع كل القوى المتنورة القادرة على المساهمة في مشروع الاحياء القومي.. وإذا كنا سنتحدث عن الأنساق القومية وأدوارها.. فإن دور المثقف القومي هو في المقدمة.. رغم أن مهمة المثقف القومي ليست سهلة, لأسباب تتعلق بوضعه كفرد, وأسباب تتعلق بمحيط العمل وقواه, ومستوى الاستجابة بشكل يظهر فيه المثقف القومي وكأنه يغرد خارج السرب.
إن اجتراح الأفكار والطرق, والمناهج وأساليب الحوار, والقبول, والمناعة الشخصية في وجه الاحتواء والمال مهمّ وضروري, وكم هناك من المثقفين, والمثقفون القوميون أنضووا تحت زعاماتٍ أو تيارات أو اتجاهات بأسباب مادية, ألغت دورهم فاختاروا السهل والمريح.
إن قيام مؤسسات لرعاية الفكر القومي, كمركز دراسات الوحدة العربية, والمجلس القومي للثقافة العربية, وما يمكن أن تقدمه الجامعة العربية, وما يمكن أن تساهم به الأحزاب القومية مع توافر روح الرحابة, والانفتاح, ومقدرة الاختراق الاجتماعي للبنى المغلقة أو شبه المغلقة, كلها قضايا ومهام للانساق الثقافية القومية, وهيئاتها, وأحزابها, وتياراتها, في اطار تحالفات, وطنية وقومية, وعلى قواسم وعناوين قومية كبيرة ترتقي لما هو أصيل, واستراتيجي في حياة الأمة ومستقبلها, خارج المصالح القطرية الضيقة ومنتجاتها القبلية, والزعامية, والطائفية, والمصلحية, إنه الخيار القومي, وقد تأخر العرب عن انجاز حده الأدنى في عصر التكتلات الكبرى, والتحديات الأكبر.
* كاتب وباحث