|
أوتار.. لا شيء مفرحاً.. لا شيء لذيذاً..لا شيء دافئاً آراء الناس الذين نراهم كل يوم بنفس الاشكال يصيبوننا بالضجر. مهما كانت الوردة فواحة وطازجة في النظر اليها تكرارا تصيبنا بالضجر.. الحياة عموما,التي تتكرر كل يوم ..الليل والنهار..الضوء والعتمة... ما لم يحدث ما نفاجأ به. في الحقيقة أعاني من أزمة روحية شديدة .. هل لأنني أصبحت عاجزا عن الصداقة.. عن الحب.. عن الاستمتاع بالحياة..
تصبح الشيخوخة أحيانا عبئا على صاحبها, يشعر المرء أنه لم يعد هناك ما يدهش... وانه عرف كل شيء.. وجرب كل شيء.. فلم تعد هناك لذة في الاكتشاف والتعرف على الاشياء الجديدة. اصبحت الحياة تشبه بعضها بعضا الى حد الملل. حتى الحب لم يعد ذا معنى. قبلة الفم, قبلة اليد. قبلة الجسد... لا شيء دافئا. لا شيء مفرحا..لا شيء لذيذا... لقد فقدت الحياة بهجتها ورونقها, وأصبحت اللحظات والدقائق والساعات بنغم واحد لا يتبدل... ومع ذلك ان هناك درجات من الحب او الحقد أو الاهواء الجامحة والحماسات المختلفة التي ترفع الانسان فوق نفسه.كما أن هناك أوضاعا خارجية واحداثا طارئة تضفي عليها أهمية كبيرة لأنها ثمينة ونادرة كأن يكون المرء ملكا مثلا.أو كأن يدخل في طور الاحتضارأو مسحوقا بوطأة الجو المخيم عليه.الأشياء المزعجة من حوله. القذارات ,الوسخ... الطاولات التي فرغت من صحونها.. لطخات الاصابع على المرايا في الحمامات. يجد نفسه, في المحصلة غارقا, مرة اخرى في التفاهة والعبث,ولكن فجأة ينطلق صوت بلحن جميل محطما رتابة الحياة, جارفا معه الوقت, الزمن الذي كان متباطئا بل متوقفا بالمرة, حاملا على تياره ولا شيء والآخرون الغارقون جميعا في مباذلهم اليومية, المستسلمون كلية للحاضر, التي تستطيع الموسيقا أن تحررهم منها لأنها غير موجودة. وتصبح بالتالي, وحدها ضرورية والباقي كله زائد وعن اللزوم. من الضروري أن يقدر المرء ان يتغلب على الدقائق بأن يفرغها من شحمها ويصبح غير خاضع لقوانينها, كالاغنية التي يرتفع بواسطتها الى اعلى نقطة من الفرح ويبطل بواسطتها عن السقوط من يوم الى آخر بلا ماض بلا مستقبل, متحللا, متهافتا, منزلقا نحو الموت. غالبا استمع الى كونشرتو لباخ أو شوبان وافكر كثيرا في هذا العبقري الذي ابتدع هذا اللحن, فإذا به رجل متهدم كان يعيش مرهقا بهمومه, مثقلا بالديون, ناقما على المرأة التي أحبها, وملأت دفاتره برسائل الحب, ثم فجأة تهجره فيصبح متذمرا من كل شيء ومن لا شيء, إلا لأنه ابتكر عملا فنيا تعالى بفضله فوق تفاهة عمره, وخلق مبررا لوجوده. لقد أنقذ نفسه. لقد اغتسل من آثامه وصفت روحه بعد أن كان مثل الآخرين مأخوذا في دوامة الحياة.. واصبح بالانصات الى عذوبة اللحن.. يتراءى له أنه محاط بهالة من الروعة, كتلك التي نضيفها باعجاب على أجمل القصائد وأرق الشعر. الحقيقة التي اريد بلوغها ان السعي الى الخلاص هو طريق الفن.. ان نحاول في كل الفنون .. نتعرف على خلط الالوان.. على كتابة القصيدة, على الغناء... ان نحاول في مجال الادب.. ان نكتسب سيرة تاريخية ومؤهلات موسيقية.. هنا ... هنا فقط تبدو الحياة على حقيقتها: انها عنصر ما فوق الكينونة.. حكاية.. وهم أو أي بدعة تحرر الآخرين من الشعور بوجودهم. وذلك الشعور بضرورة احياء الفنون يتوهج الكون الذي كان من قبل مظلما بنور باهر, لكن السعادة تمر بسرعة لأن الطبيعة البشرية لاتستطيع ان تتحمل طويلا هذه الغبطة الخارقة فإذا بنا نشعر بخيبة ونعود الى مرارة الواقع بعد تحليقه عاليا في هذه الاجواء السماوية.. إذ نتقدم بالعمر, ونبتعد عن مرحلة الطفولة فنزداد تشاؤما, وتخذلنا الحياة التي تمعن في التعقيد. والتي تحتوي على بضع نشوات نادرة وبضع صحوات روحية خاطفة لكنها اجمالا معاناة بطيئة, وحالة من التقلب المستمر لا شيء فيها يدوم لا الحزن ولا الفرح, والتي ينهشها الزمان ويبليها لحظة بعد لحظة, الى ان تغيب شمس العمر متشحة بغمامة سوداء ويدق جرس منيتنا, وحينئذ نعود الى التراب, ونصبح غذاء للنبات, وتنتقل هبة الحياة الى الازهار على حد قول غاليري, وتمتص جذور اشجار الصنوبر والسرو بقايانا في المقبرة. ولكن بعد ان نستمع الى الشيخ وهو يلقننا عذاب القبر وصلوات الموت الأخيرة, وتزول مع جملة الأعراض الزائلة.... ولكن سيبقى هناك ما لا يزول أبدا ولا يعتريه تبدل: انه الله. قرأت في العشق حار الناس في العشق وأحواله. قال الجاحظ في وصف العشق وتفسيره اسم لما زاد على المحبة, كما أن السرف اسم لما جاوز الجود. وقال أعرابي في وصف العشق: العشق في أن يرى وجلّ أن يخفي, فهو كامن مثل كمون النار في الجمرات إن قدمته اورى وان تركته توارى. وقيل : أول العشق النظر واول الحريق الشرر والعشق حال تغلب على صاحبها فيتغير مزاجه من النقيض الى النقيض, ويصبح مخلوقا آخر. كان شبيب أخو بثينة يمر بين خيامهم حين سمع همسا فتوجّه نحوه فوجد جميلا يحدث شقيقته بثينة حديثا عذريا وبينهما مسافة. وهاج الأخ وماج ووثب على جميل وآذاه, وتجمع الناس وفرقوا بينهما. ثم مرت الايام, وجاء شبيب الى مكة لغرض ما, وكان جميل في مكة, فقيل له, دونك شبيب فخذ بثأرك منه, فأنشد جميل. وقالوا يا جميل أتى أخوها فقلت أتى الحبيب أخو الحبيبة * * * * اعتبرت الدكتورة غادة الكرمي في محاضرة ألقتها في لندن وكنت موجودا فيها, كان عنوانها(داء العشق) مؤكدة ان العشق مرض خطير قد يودي بالمرء الى الجنون. في الحقيقة ميزّ الاطباء العرب القدامى العشق عن الحب والغرام المألوفين, وكانوا يعتبرون العشق داء ينتمي الى الامراض النفسية والذهنية. ووضع ابن سينا كتابا عن الموضوع عنوانه(رسالة في داء العشق) وكان يعتبره من أمراض الرأس والدماغ وصنفه ضمن امراض الجنون. إن حكمة ابن سينا تبدو واضحة جلية في إلحاقه الحب بأمراض الدماغ لا القلب, كما نخطىء نحن في هذه الايام ونتحدث عن القلب الجريح أو القلب الكسير ...الخ. الحب أساسا مسألة تتعلق بالدماغ.. وليس العشق سوى تصور يستولي على المريض-الذي هو العاشق- أن حبيبته هذه ليس لها مثيل في العالم, وانها نسيج وحدها, وقد صنعت من المسك والعنبر لا من التراب, وليست كبقية النساء.. فهي نسيم عليل لولاه لاختنق المرء.. هذه الفكرة تتسلل الى رأس العاشق. إن قناعة العاشق تخضعه لهذا الاحساس, وتزيده تعميقا في نفسه حتى يصل الى حال لايرى في الدنيا كلها سوى المحبوبة. ويبدأ العاشق هيامه في الصحارى والأودية والجبال وهو ينشد الشعر ويغني ويذرف الدموع ويطلق الآهات والتنهدات, في الواقع العشق مأساة تبدع لنا أدبا جميلا ملتهبا صافيا نقيا, ولكن صاحبها يضيع ويحترق في نار هادئة يستعذبها في البداية, ولكنه يتوجع منها في النهاية. سئل واحد من قبيلة بني عذرة, وهي قبيلة اشتهرت بتجاوز الحدود والسدود في العشق: لماذا تحبون حتى الموت? قال العاشق: إنّا لننظر في محاجر أعين لاتنظرون اليها. وقيل : لا يصح الحب بين اثنين إلا اذا قال أحدهما للآخر: -يا أنا.
|