وفي تفاعلهم مع الناس، كل ذلك في الوقت الذي يجب - بل ويدعوهم - أن يكونوا كتلة ً واحدة ً تهتم بالوطن وتقود أبناءه نحو المستقبل بخطى ً واثقة ً سمتها الرئيسية هذا التعاون المفترض بين المثقفين والأدباء والفنانين، هذا هو (ما يجب أن يكون) أما الواقع، فأقل بكثير ٍ من أقل تعاون ٍ في أي مهنة ٍ محترمة ٍ بين أفرادها.
الحوار دائماً
ولكن يبقى السؤال برسم المثقفين: هل يمكن أن نتحاور أنا وأنت ؟ أعترف بك وتعترف بي ؟ أحترمك وتحترمني، تتقبل أفكاري وأتقبل أفكارك ؟ تحترم معرفتي وثقافتي، وأقابلك في ذلك ؟ قبل أن نناقش وضعنا الثقافي، وأهميتنا الثقافية أنا وأنت ؟ ونضع أنفسنا (كل واحدٍ في المكان المناسب له) دون تمييز ٍ لأي سبب ٍ ؟
وهل يمكن لي أن أكون أنا أنت، وأنت أنا ؟ نتبادل الأدوار التي احترمنا - كل ٌ في الآخر - ونقدر معرفة وثقافة الآخر ومن ثم نتحاور، كي نصل إلى محاولة فهم ٍ مشترك، ونتعايش سوية ً و معا ً، ونتقبل واحدنا الآخر، في عيش ٍ مشترك ٍ يكون الأفضل للحياة الإنسانية، بدل أن يكون الصراع هو الفاصل بيننا، أو الحكم في علاقاتنا الإنسانية. ؟
وهل كانت هذه هي البداية - منذ فجر التاريخ - أم كانت هناك فترات ٌ لاحقة يمكن أن تشكل الجذر الأول والأهم لهذه المشكلة التي صارت الأهم والأخطر في العالم. ؟ هل يتحمل الإنسان المسؤولية، أم أن الله خلقنا هكذا؟ هل تولد هذه المعضلة في تقبل أو عدم تقبل الآخر معنا، أم نكتسبها تدريجيا ً من خلال العقائد والأعراف والعادات التي نعيشها؟ وهل يتحمل المجتمع الجزء الأهم منها، أم أن الأديان باختلافاتها، وتنوعاتها بمؤيديها ومعارضيها، هي المسؤولة عنها؟
وهل فعلنا ذلك ؟
لنبدأ قبلا ً بتعريف المثقف، والدور الذي يلعبه في الوسط الثقافي.
من هو المثقف ؟
إن مصطلح المثقف في الأساس هو مصطلح ٌ جديد على الثقافة والأوساط العربية والغربية على حد ٍ سواء، ويرجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث ولد هذا المصطلح نتيجة ً للثورة التي أعلنها بعض الأدباء والمفكرين الفرنسيين أمثال (إميل زولا، وأناتول فرانس) في بيان ٍ لهم وصف حينها ببيان المثقفين، وبغض النظر عن الموضوع الذي تناوله البيان،إلا أن ذلك كان في لحظة ضمير ٍ إنسانية، استوجبت موقفا ً معينا ً من المجتمع، من هنا يمكن التأكيد أن دور المثقف في المجتمع هو الرائد والأول بجدارة، ويجب على الفئات الأخرى التنحي هنا لصالح المثقف، والدور المناط به في المجتمع لا أن يكون العكس.
وهذا يقود إلى السؤال التالي: ما هو الكالوس الثقافي ؟ والكواليس الثقافية ؟ وكيف تكون العلاقة بين المثقفين فيها، وخاصة ً في الأوساط المحلية هنا، وما يحدث أحيانا ً في (الكواليس) الثقافية من علاقات ٍ غير صحيحة بين المثقفين،وللسبب ذاته وهو الأنا الفردية لدى المثقفين، وعدم تنازل أي واحد ٍ للآخر وعدم الاعتراف بالآخر،والكواليس الثقافية هنا، يمكن التعبير عنها بالتجمعات غير المخصصة للمثقفين، وغير الرسمية، وتلك التي تجمع أناسا ً من مختلف المشارب للنقاش في قضية ٍ تخصصية ٍ، تهم فئة ً مثقفة ً ما، أو وضعا ً اجتماعيا ً وسياسيا ً ما، وهنا يختلط الأمر لتشهد هذه الكواليس نقاشا ً غير مثمر ٍ وغير كفءٍ،حول موضوع ٍ مهم ٍ يهم الشريحة الأكبر من الناس، وكان الأجدر أن تكون النقاشات بين المثقفين، وفي أماكن تواجدهم الحقيقية لا في الكواليس.
أما السمة الأخطر في الثقافة المحلية، والتي تقود العلاقات الثقافية إلى الخلاف والاختلاف فهي (الأنا الزائدة)، والتي توجب على صاحبها تضخيم ذاته إلى درجة طغيانها على الآخر، وبالنتيجة إلغاء الآخر و تقزيمه مهما كان حجمه وأهميته، وهي الخطوة الأولى في عدم الاعتراف بالآخر، والذي يصبح متبادلا ً فيما بعد، ويؤدي أيضا ً إلى الشللية والمحسوبية، وكثير من العلاقات الخاطئة بين المثقفين، مما يفرقهم، ويمنعهم من أداء دور ٍ قيادي ٍ رائد ٍ مناط ٍ بهم، والاتجاه دون معرفة إلى دور ٍ ثانوي غير مفيد ٍ ولا مجد ٍ في مجتمعهم.
هذا التضخيم يؤدي بالتالي إلى اختلاف، ليس في وجهات النظر فقط، بل في التوجهات الثقافية، وهنا الخطورة، حيث يفترض بالمثقف أن يكون الواجهة الثقافية والفكرية الموحدة للمجتمع، فيقوده هذا الاختلاف كي يكون طرفا ً في صراع ٍ طويل ٍ في الكواليس الثقافية بينه وبين أقرانه من المثقفين والمفكرين، مما يؤدي إلى تهميش القضايا الهامة للمجتمع من خلال الخلافات الحادة بين قوى التغيير والريادة فيه، وهم (المثقفون).
وهنا يبرز السؤال بين الاختلاف والخلاف.. الخلاف بين المثقفين يفترض أن يكون حالة ً طبيعية ً، تؤدي إلى مزيد ٍ من تلاقح الأفكار وبلورتها حتى إن كانت متباعدة أحيانا ً، لكنها تصب دوما ً في خانة الخلاف، ولا تصل إلى الاختلاف، إلا في حالة التعارض،وهنا تنتقل إلى مرحلة ٍ أخرى،كان يجب أن لا تصل إليها، وهي الاختلاف !!
الاختلاف إذا ً، يؤدي إلى التعارض، وبالتالي إلى الصراع بين الفئات المثقفة، ومن ثم عدم إمكانية قيام هذه الفئات بالدور المناط بها، لأنها لم تعد قادرة ً على القيام بذلك، مما يعيد طرح السؤال:
هل يمكن أن نتحاور أنا وأنت ؟
ألا يمكن إعادة تشكيل هذا العالم، دون الخوض في الموت والدمار ورفض الآخر، وتكفيره، وتهجيره،وعدم قبوله، وهل هذا هو الحل الوحيد ؟
إذا كان المثقف غير قادر ٍ على التعايش مع أقرانه ماذا سنقول عن الآخرين !! ماذا سنقول عن الأوساط الأخرى التي لاتملك تلك القدرة على التواصل والحوار، أيؤدي ذلك إلى جنون المجتمعات الذي نراه ونعيشه ويرعبنا هذه الأيام؟؟
وما هو المطلوب، ماذا نفعل ؟ومن يكون المبادر إلى اللقاء والاعتراف أنا أم أنت ؟ أعترف بك وتعترف بي ؟ أحترمك وتحترمني، تتقبل أفكاري وأتقبل أفكارك ؟ تحترم معرفتي وثقافتي وأحترم معرفتك وثقافتك ؟ كل ذلك وأكثر مطلوب ٌ من المثقفين أولا ً قبل أن يطلب من أي جهة ٍ أخرى.