فمن ذا الذي يسرق حق الحياة من رجلٍ عجوز أو امرأةٍ مُسنّة.. وما هي آلية الحياة التي تستعبد رجلاً حتى يتكسّر عظمه وينتظر حتفه على رصيفٍ ما أو على زاوية شارع؟؟ ومن الملام ومن المسؤول؟؟.
أبو إبراهيم هذا الاسم السحري لرجلٍ يعمل حمالاً في السوق.. يحمل البضاعة ويدفع عربته بل ويهرب بها عند المطاردات التي يتعرض لها من رجال البلديّة.. تصوروا أنني سألته عن عمره فأجاب:» أنا من مواليد الثمانية والعشرين «أي عمره ثلاثٌة وثمانون عاماً.. ويعمل من الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة الرابعة ظهراً حمّالاً أي بلغة الحمامصة عتّالاً ويتقاضى كحمولة بضاعة مع نقلها بعربته اليدوية النصف معدنية والنصف خشبية والعجيبة الشكل من مكان إلى مكان بما لا يشتري سندويشة فلافل، سألته عن أسرته ففزّت الدموع من عينيه وهو يحكي لي عن زوجةٍ هرمة ومريضة وعن ابنةٍ مشلولة معاقة طريحة البيت كان قلبي يقفز من مكانه وأنا أرى دموعه تقفز على وجنتيه المتيبستين وعندما أراد مسح دموعه كانت أصابعه المتخشبة من التعب والعمر غير قادرتين على مسح الدمع بل سارعتا لنقله من وجنتيه إلى كل مفردات وجهه وعندما سألته عن بقية أولاده رفع سبابته إلى السماء مشتكياً وغاب الكلام في حنجرته وراحت عبرات وجهه تهتز ألماً وبكاءً خنقته الحسرة والوجع.. فابنه الوحيد والذي تجاهله وأدار له ظهراً قضى بمرض السرطان تاركاً له حفيدة ً هي ما تبقّى له من سعادة الدنيا ويبذل ما بوسعه لإسعادها وتعليمها ورعايتها.. تركني أبو ابراهيم ومضى يجر عربته التي كانت تتلقى دموعه كأمٍ صنعت من خشب.. كنت أتساءل بيني وبين نفسي.. ما احتمال أن يكون خاتمة المطاف بالحياة لأي واحدٍ منا على هذه الشاكلة، أن يعمل أحدنا حتى هذا العمر دون استراحة؟؟
خرج أبو إبراهيم صبيحة اليوم الذي يسبق عيد الأضحى في العام الماضي لعمله القاسي وقبيل خروجه سأل حفيدته الصغيرة عمّا ترغب به كهدية على العيد.. فتمنّت عليه الحفيدة اليتيمة أن يحضر لها قميصاً طبع عليه علم الجمهوريّة العربيّة السورية.. فكان أن وجد هذا القميص مع شابّةٍ تعمل في مبنى المحافظة فأعطته إياه محققة حلم الحفيدة اليتيمة.. ولكن في طريق العودة وأثناء مروره أمام دائرة النفوس بحي باب هود بحمص اعترضته مجموعة مسلحة من شبّان أطالوا لحاهم وحلقوا شاربهم وعلا تكبيرهم وتهليلهم عندما اكتشفوا القميص الذي بحوزته فحاولوا حرقه فاندفع بين أيديهم متوسلاً أن لا يحرقوا أمنية الحفيدة اليتيمة لكنّهم بعد حرقهم للقميص المزيّن بالعلم انهالوا عليه ضرباً وربطوه من قدميه وشحطوه على الطريق وغابوا به في الأزقة القديمة.. وفي صبيحة اليوم التالي وجدت جثته منكلاً بها ومرميّة مع عربته بجوار حديقة الصالة الرياضيّة بحمص وقد كتب القتلة على بقايا الجسد العجوز كلمة (مخبر ).. وعند وصول جثة أبو إبراهيم الشهيد إلى بيته الفقير رحت أنظر في عيني تلك الحفيدة الطفلة المذهولة وقد تجدد يتمها ولم يبق لها من هدية العيد إلاّ حمرة الدم الزكي الذي غسّل أشلاء جدها القتيل.. كان بكائي يقف في مكان ما ويترصد هلعي في كل مكان وصرير الفقر ونوح الجدّة والحفيدة يشقُّ السماء ويستصرخها ويسألها: (كيف يستطيع كائن بشري قتل أشدّ الناس مظلوميّةً وبتهمة أنّه مخبر؟!! وكيف صار علم الوطن على قميص طفلةٍ يتيمة تهمة؟!! وما هو دين تلك الأيدي المجرمة القاتلة وهي تنكّل بجسد عجوزٍ تجاوز الثمانين؟!! وهل يستطيع فقهاء القتل ورعاة الحريّة في بلاد النفط والمنافحين عن حقوق الإنسان في مجلس الأمن الهروب من لعنة الدم النازف من جسد أبي إبراهيم العجوز وأمثاله؟!).
على بوابة عيد الأضحى كانت الحفيدة اليتيمة تدفع عربة جدّها وقد وضعت عليها شجيرات الحبق فتمضي إلى قبر جدّها وقد حملت معها علم الجمهوريّة العربيّة السورية كسوة ً لجدها الشهيد، على بوابة العيد تذكّرت كيف سقط فجأة أبو إبراهيم شهيداً.. كيف استشهد وهو يحمل لحفيدته وطناً يغطيها ويدفئها.. سقط وهو يدفع عربته بين أزقة مدينته التي كانت الشاهد على فقره وبؤسه.. سقط وقد أبى جسده القتيل إلاّ أن يكفنه العلم السوري الوطني.. سقط شهيداً وهو يلوك مرارة الشيخوخة.. تاركاً خلفه سنوات عمره الثمانين تُسفح على أرصفة الطرقات وهو يجمع الفتات ليشتري دواءً لزوجته العجوز أو ابنته المعاقة أو رغيفاً ساخناً للحفيدة الجائعة بما بقي له من عزيمة الثمانين !! سقط شهيداً وقد قتله من كان يراه كل صباح يلملم شيخوخته ويكفّن كل لحظات راحته ليدفع عربته بساعديه الهرمين !! قتله من رآه يموت حياً وقد أجّل قراءة الفاتحة عليه حتى ينهال عليه التراب المعطّر بدم الشهادة !! قتله من لبس ثوب الخيانة والعقوق والنكران والحقد والجنون.. على بوابة العيد مازالت روح أبو إبراهيم الحمّال العجوز ترفرف وتعزف على سنابك جيشنا البطل (حماة الديار عليكم سلام ).