والشكل الشعري الجديد هو (عودة إلى الكلمة العربيّة ـ إلى سحرها الأصلي، وإيقاعها وغناها الموسيقي والصوتي)، فالشاعرُ الحديثُ إذاً يتجاوز القريض بوصفِهِ (قواعد ومقاييس، كانت جميلة وضروريّة في حينها، إلى الأساس الذي انبثقَ منه) أي إلى (الكلمة العربيّة وإيقاعها، فالشكل الشعري الجديد يتكوّن الآن بدءاً من الكلمة العربيّة وإيقاعها، لا بدءاً من القريض) كما عبّرَ أدونيس ذات يوم في كتابه (مقدمة للشعر العربي)، فالموسيقا وفق هذا الرأي تتأتّى من (إيقاع الجملة، وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وطاقة الكلام الإيحائيّة، والذيول التي تجرّها الإيحاءات وراءَها من الأصداء الملوّنة المتعدّدة).
وسيذهبُ بعضهم كالدكتور ناصر علي إلى أن مصدر الموسيقا في الشعر ليسَ التفعيلة وأنواع تشكيلها فحسب، (بل أجزاء أخرى تبدو بالنسبة لقصيدة النثر أكثر أهميّة منها لقصيدة التفعيلة، ومن هذه الأجزاء التي يجري توقيع الموسيقا بها:
ـ التركيب اللغوي حين ينتظم في أنساق من الموازنات والتقطيع.
ـ التكرار وفق أشكال موّظفة لتأدية دلالتها.
ـ التوزيع والتقسيم على مستوى جسم القصيدة، بهدف دلالي مُحدّد.
ـ التوقيع على جرس بعض الألفاظ المعجميّة والموازاة بين الحروف).
وعليه فمن الواضح أن الإيقاع الداخلي في الشعر الجديد، كما تقول د. يمنى العيد يقومُ على خلقِ (التناسق بين أجزاء القصيدة في حركة بنائها نحو التكامل، وهذا الانسجام يكون بين الألفاظ من حيث تجانس حروفها، وبين الصور التي يخلقها الشاعر، ممّا يعطي تفّرداً. وهذه الألفاظ وهذهِ الصور تنمو في القصيدة بتكنيك خاص، بحيث تكون متجاوبة مع المعنى الذي يريدهُ الشاعر، والتجربة التي يريد الإفصاح عنها).
والحقيقة إن نظرة شاملة إلى هذا المفهوم تجعلنا ندرك أنه حصيلة تركيبيّة ائتلافيّة من جملة مكوّنات؛ بعضها ذو مصدر صوتي يتأتّى من إيقاع الحروف، في حال تشابهها أو اجتماعها أو تكرارها أو افتراقها، وحالات حركات المد المختلفة المتكرّرة، وعلاقة المفردات نفسها داخل الجملة الواحدة تجانساً أو تضاداً أو تكراراً، والتركيب اللغوي والصياغات ضمن النص، وبعضُها الآخر، ليسَ صوتياً ولكنه يقوم على الإيقاع المتوّلد من طريقة بناء الصورة الشعرية والرمز، وتوارد الأفكار، وأساليب بناء النص، وأدواته وتنوّعها من استفهامٍ وتعجبٍ ونداءٍ وتمنٍ وما إلى ذلك، بالإضافة إلى المزج بين الشعر والنثر في النص الواحد وما يترتّب عن ذلك من إيقاعات داخليّة متباينة تفرضها خصوصيّة هذين الجنسين.
لقد أولى الباحثونَ مفهوم (الإيقاع الداخلي) في الشعر الحديث اهتماماً كبيراً، وصدرت في ذلك دراسات غير قليلة، لكنَّ من الظلم بمكان أن ننسب للشعر الحديث توظيف الإيقاع الداخلي، ونعدّه واحداً من إنجازاته الجماليّة الخاصة، دون أن ننتبه إلى أن الكثير من نصوص شِعرنا القديم الباهرة انطوت على تعانقٍ وامتزاجٍ مذهلين بين الموسيقا الجاهزة (موسيقا البحر)، والموسيقا الداخليّة، مع أن أصحاب هذهِ النصوص ما كان يخطر ببالهم أنهم يؤسسون لما نسمّيه إيقاعاً داخلياً أو موسيقا داخلية. كما أننا نجد بالتأكيد في النصوص الشعرية المُعاصرة ما يحقق موسيقا داخليّة عفويّة لافتة، لم يقصد الشاعر إلى خلقها.. لكنها جاءت انطلاقاً من طبيعتِهِ الخاصة، وطريقة تعامُله مع المفردات الأقرب إلى نفسه وشخصيّته، ومشاعره وأحاسيسه لحظة الكتابة وما إلى ذلك.