وبلوغ نسبة البطالة للمرة الأولى 10٪، أصبحت الدول الأوروبية في منطقة الخطر، وبدأت تتلمس رأسها خوفاً على المستقبل الذي رسمته لنفسها قبل عشرات العقود.
هذا الخطر استشعرته الدول الأعضاء في اتحاد أوروبا الغربية، وعلى رأسها بريطانيا بسبب النفقات الكثيرة التي تدفعها هذه الدول على الاتحاد، في وقت لم يعد له أي دور في الحفاظ على أمن القارة، أو تحقيق الأهداف التي تأسس من أجلها بموجب معاهدة بروكسل، وهي اتفاقية دفاع مشترك وقعتها عشر دول هي ( ألمانيا، بلجيكا، إسبانيا، فرنسا، اليونان، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، البرتغال، بريطانيا) إضافة إلى 18 دولة منتسبة أو مراقبة، كلها أعضاء في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وذلك عام 1948، وكان هدفها السيطرة على وسط أوروبا ومواجهة الاتحاد السوفييتي آنذاك .
وقبل أيام أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من هذه المعاهدة، مقترحة نقل جميع الأنشطة الأساسية فيها إلى الاتحاد الأوروبي بشكل تدريجي ليتحمل مسؤوليات جديدة في الأمن والدفاع وتطبيق ما أقره عام 1999 في قمة هلسنكي، بعد أن كان اتحاد أوروبا الغربية هو المنظمة الأوروبية الوحيدة المختصة بالمسائل الدفاعية، لكنه لم يتمتع بسلطة حقيقية .
بالطبع جاء ذلك على خلفية إعلان روبرت والتر رئيس الجمعية البرلمانية للاتحاد المذكور أن المعاهدة الدفاعية سيتم نقضها وأن اتحاد أوروبا الغربية سيتم حله كمنظمة خلال عام تقريباً ، كما جاء أيضاً بعد رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند منتصف الشهر الماضي إلى رئيس الوفد البريطاني في الاتحاد يبلغه فيها عزم بريطانيا على نقض المعاهدة.
وبعودة سريعة إلى سبب تأسيس أو إنشاء معاهدة بروكسل، نرى أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية شهد مجموعة من الأحلاف، جاءت في نظر البعض كردة فعل على فشل الأمم المتحدة بتحقيق الأمن الجماعي، فيما رآها البعض الآخر أثراً من آثار الحرب الباردة بين الشرق والغرب وصورة لتوازن القوى بينهما، ولاسيما بعد أن ظهر العالم بقطبين أساسيين تمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وأصبحت كل دول أوروبا الغربية ودول المعسكر الشرقي معتمدة على المظلة النووية للقوتين العظميين للحفاظ على أمنها من جهة ومتخوفة بذات الوقت منها من جهة ثانية، وهكذا بدأت العلاقات الأوروبية تتبلور أولاً بأول وتلتقي مع الأخرى الأمريكية لاعتبارات أساسية كانت نابعة من نظرة واشنطن الاستراتيجية إلى الاتحاد السوفييتي واهتمامها الأقصى باحتواء نشاطاته في القارة الأوروبية والعالم، وبدأت بقضيتين رئيسيتين، الأولى اعتمدت الأسس الاقتصادية التي أرساها مشروع مارشال والقاضية بتبني فكرة تقديم مساعدات مالية واقتصادية للدول الغربية، بهدف إبعادها بشكل نهائي عن الاتحاد السوفييتي وربطها بالنظام الرأسمالي، والثانية اعتمدت على الأسس العسكرية من خلال إقامة شبكة من الأحلاف مع الدول القائمة، حول الأراضي السوفييتية لكبح جماح الشيوعية وخنق الحركات الثورية المدعومة من الاتحاد السوفييتي نفسه.
أما بالنسبة لبريطانيا وفرنسا فقد كانتا في طليعة الدول الغربية المتخوفة من الخطر السوفييتي، ولذلك ارتأتا إنشاء اتحاد أو حلف لتقوية مركزهما في أوروبا خاصة، والعالم عموماً، وقد عرضت هاتان الدولتان على دول بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ فكرة إبرام معاهدة سياسية بينها، وتم بالفعل في مؤتمر بروكسل في 17 آذار 1948 الذي أدخل التحالف العسكري ضمن هذه المعاهدة، باعتباره ضرورة ملحة لتحقيق أهدافها ثم بدأت هذه الدول مفاوضاتها مع الحكومة الأمريكية بغية إشراكها في المعاهدة لتنظيم دفاعات عسكرية قوية لأوروبا الغربية، ووافقت الإدارة الأمريكية على الدخول في هذه المعاهدة .
الآن وبعد أكثر من ستين عاماً على إنشاء معاهدة بروكسل ونظراً لتغير الظروف الدولية، أعادت الدول الأعضاء النظر في فاعليتها، وما إذا كان استمرارها ضرورة ملحة، وناقشت هذا الموضوع منذ عشر سنوات، وقررت حينذاك نقل صلاحياتها إلى الاتحاد الأوروبي الذي أخذ بالتوسع والبروز كقوة لا تقل شأناً عن الولايات المتحدة، ليتولى مسؤوليات جديدة يمكن أن تعود بالفائدة على دول القارة الأوروبية بدلاً من استمرار المعاهدة وتحمل أعبائها ونفقاتها بما لا يحقق أي فائدة ترجى .