وقد تشرفت بمعرفته شخصياً حين تم تعيينه (مع الدكتور نور الدين حاطوم والأستاذ أديب اللجمي) في لجنة تحكيم لمسابقة البحوث القومية والعسكرية لعام 1961، حول موضوع «كفاح الشعب العربي السوري في سبيل الجلاء» حيث نال البحث المقدم مني الجائزة الأولى بإجماع الآراء من أصل نحو ثلاثين بحثاً، وهكذا كانت معرفتنا الأولى.
وتوثقت معرفتي بالدكتور العوا بين 1961 و 1965 في الفترة التي كنت فيها طالباً في قسم الأدب الفرنسي، حيث كان مكلفاً بإعطائنا مادة بعنوان (الفلسفة العربية) إلى جانب (الفلسفة اليونانية) التي كان يدُرّسها لنا أستاذ آخر، وقد كنت ألقي عليه كثيراً من الأسئلة الإشكالية أثناء محاضراته الدرسية، وكان هذا يروق له!
2- أما الآنسة «تاج باتوك» فقد كانت فتاة شركسية جميلة في العشرينيات من عمرها، وقد انتسبت إلى فرقة التلفزيون للرقص الشعبي، وكانت من أجمل بناتها وأمهرهن في الرقص ولم تكتف تاج بالاشتراك في الرقصات الجماعية المصاحبة للأغاني بل أضافت إلى ذلك بعض الرقصات التعبيرية التي كانت تؤديها بمفردها، وخاصة رقصتها المرافقة لمقطوعة (رقصة النار DANCE OF FIRE) التي ألفها الموسيقار «مانويل دوفايا» والتي يذكرها كل مشاهدي التلفزيون العربي السوري في ذلك الوقت!
والحقيقة انه إلى جانب كون تاج باتوك فتاة جميلة وراقصة تعبيرية مجتهدة فإنها كانت طالبة في كلية الآداب بجامعة دمشق، ولا أذكر في أي قسم، لأنني لم أكن أعرفها شخصياً!
وقد يتساءل بعض القراء هنا عن سبب إقحام الأنسة باتوك في هذا المقال طالما أنني لم أكن أعرفها شخصياً، وجوابي لهؤلاء هو رجائي لهم بالتريث حتى قراءة بقية هذا المقال.
3- في أواسط شهر أيار 1965 كنت أقدم امتحانات آخر مادتين في قسم الأدب الفرنسي كما أذكر، في البناء الملحق بالجامعة في حي الحلبوني، حين فاجأنا الأستاذ الدكتور «عادل العوا» عميد كلية الآداب بزيارته! واعتقدنا جميعاً أنها زيارة تفقدية روتينية للتأكد من حسن سير الامتحانات، ولكنني اكتشفت، قبل إنهاء الزيارة أنه كان له هدف آخر من القدوم إلى الملحق وذلك حين اقترب مني وقال بصوت هامس:
- أستاذ إحسان، أريدك أن تأتي لمقابلتي غداً في مكتب العمادة بين العاشرة والحادية عشرة صباحاً، لم أنم تلك الليلة بل قضيتها ساهراً أضرب أخماساً بأسداس، حيث كنت أخشى أن يكون أحد الأساتذة الفرنسيين (المسيو لافيرن) قد قدم تقريراً ضدي بعد أن ضبطني وأنا أمرر «راشيتة مساعدة» إلى زميلة استنجدت بي في مادة (تاريخ الفن) وظللت على قلقي حتى حانت الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
وزال جزء كبير من توتري النفسي عندما استقبلني الدكتور العميد بوجهه البشوش وابتسامته المعهودة، ثم طلب مني الجلوس.
وبعد عبارات المجاملة التقليدية سألني مازحاً:
- هل تنوي التسجيل في فرع رابع من فروع الجامعة بعد أن أنهيت ثلاثة فروع؟ وأجبته مازحاً في ذات السياق:
-سآتي إلى عندكم في فرع الفلسفة إن شاء الله!
وكان - رحمه الله - يعلم أنني قد خرجت من الخدمة العسكرية الفعلية إلى التقاعد فسألني عما إذا كنت مرتبطاً بعمل من نوع ما فأجبت:
- أنا أعمل مدرساً للغة الفرنسية وجملة مواد ثقافية أخرى في عدة ثانويات ضمن مدينة دمشق، وأنا مرتبط بعقد معها طيلة فصل الدراسة ولكني حر خلال الصيف.
فعقب على كلامي قائلاً:
- عظيم! إذن اقرأ هذا الملف وأعطني رأيك.
ومد لي عندئذ يده بملف يحوي بضع أوراق بالفرنسية تصفحتها فوجدت أنها دعوة موجهة من رئاسة جامعة اسمها (جامعة المتوسط الصيفية U.M.E) في مدينة إيكس آن برومانس (فرنسا) إلى عمادة كلية الآداب في جامعة دمشق لترشيح أثنين من خريجيها للاشتراك في مؤتمر ثقافي - بحثي لمناقشة موضوع «السلفية التقليدية والتحديث في بلدان البحر الأبيض المتوسط» وذلك على مدرجات كلية الآداب في جامعة إيكس خلال خمسة أسابيع بين 25 حزيران و 2 آب 1965.
وفي الخطاب إشارة إلى أن (جامعة المتوسط الصيفية) ستتكفل بتغطية نفقات السفر من وإلى مرسيليا (على بعد 35 كم من مدينة إيكس)، والطعام والزيارات والرحلات الداخلية ومبلغ مقطوع للنثريات الشخصية!
وقال لي العميد العوا بعد أن فرغت من القراءة:
- وجدتك صراحة الأصلح لتمثيل خريجي كلية الآداب في جامعة دمشق لأنك قضيت فيها سبع سنوات، ودرست فيها قسمين، وعندك خلفية ثقافية ولغة فرنسية جيدة تساعدانك على التعبير.
وشكرت الدكتور العوا على ثقته الغالية، وتمنيت أن أكون عند حسن ظنه، وسألته عن الإجراءات فقال لي إنه سيرسل الاسم إلى رئاسة الجامعة لتبلغه إلى السفارة الفرنسية للحصول على (الفيزا).
وما علي أنا إلا شراء بطاقة الطائرة إلى فرنسا ذهاباً وإياباً وستعوض علي (جامعة المتوسط الصيفية) المبلغ وأكثر منه عندما أصل إلى مدينة إيكس).
4- في الأسبوع الثالث في شهر حزيران أمن لي كل ما يلزم من إجراءات السفر على مستوى الكلية والجامعة والسفارة، وقابلت العميد واستأذنته في السفر وكان من الطبيعي أن أسأله عن اسم الخريج الآخر الذي سيكون زميلي في الرحلة، فتردد قليلاً ثم قال لي: «الآنسة تاج باتوك».
ولا أدري لماذا شعرت بشيء من المفاجأة عندما تلفظ لي بالاسم، فلاحظ هو عليّ ذلك وبدأ يشرح لي السبب:
- إن موضوع اللقاء الثقافي في فرنسا هو «التقليدية والحداثة» وإذا كنت متأكداً من أنك ستدافع عن التقليدية خير دفاع، فإنه يهمني أن يعرف جميع الحضور والمشاركين من فرنسيين ومتوسطين شيئاً عن وضع المرأة السورية المعاصرة، وإنها لم تعد تركب الهودج وتسكن الخيام! إني أعلم عقلية الفرنسيين فقد عايشتهم خمس سنوات، إن وجود فتاة مثل تاج إلى جانبك يمكنها أن تقدم صورة مشرقة ومشرفة للفتاة السورية في ملابسها وثقافتها ورقصها وآداب الإتيكيت التي تجيدها.
ووجدت نفسي أقتنع تماماً بوجهة نظره فسألته:
- وما المطلوب مني تجاهها فأنا لا أعرفها شخصياً؟
- لاشيء، اللهم إلا مساعدتها في التعرف على الأمكنة فأنت تعرف فرنسا مسبقاً من جهة، وتجيد الفرنسية أكثر منها من جهة ثانية!
ودّعت العميد الدكتور «عادل العوا» مستأذناً إياه بالسفر الذي سيكون بعد ثلاثة أيام، وأخذت أمنّي النفس بلقاء زميلتي الآنسة «تاج باتوك» في الرحلة، وكيف سنعطي معاً أفضل فكرة عن خريجي كلية الآداب في جامعة دمشق، وبدأت أحضر في ذهني الأماكن السياحية والتجارية التي سأصحب «تاج» في زيارتها لتعريفها بها سواء في باريس برج إيفل، البانتيون، الساكريه كور إلخ...
وفي منطقة الريفييرا الفرنسية (نيس، كان، سان، تروبيز...) والإيطالية (فانت ميليا، سان ريمو) بورتوفينو.. إلخ.
وقبل يوم واحد من ميعاد السفر مررت إلى ديوان الكلية حيث يعمل صديقي (أحمد ب...) أميناً للسر وسألته عما إذا كانت هناك تعليمات جديدة فاصطحبني إلى خارج المكتب، وقال لي هامساً وكأنه يبوح لي بسر:
- إن رئاسة الجامعة لم توافق على ترشيح الآنسة تاج لحضور المؤتمر، وإن السبب كما يقال هو عدم إجادتها اللغة الفرنسية بشكل كاف؟
- ومن هو الطالب الذي رشحته العمادة بدلاً عنها؟
- هو طالب تخرج هذا العام من قسم الفلسفة واسمه «نون. فستق».
وهكذا ذهبت إلى المتوسط الصيفية برفقة السيد «فستق» بدلاً من الآنسة تاج باتوك ولا تسألوني لم صرت أكره الفستق بجميع أنواعه - منذ ذلك التاريخ!