والتي تكرست في الفن السوري والعربي منذ اكثر من نصف قرن،وجاءت كردة فعل عفوية ومعاكسة للتجارب التشكيلية العربية، المفتوحة بشكل كلي على كل ماهو مستهلك وبائد ومطروح في التشكيل الغربي،في مظاهره الدادائية والعبثية والعدمية واللاشيئية.
لوحات البدايات
وفي عودة الى منطلقات تجربته، التي بدأها في مطلع السبعينات،نجده ركز في بعض لوحاته الأولى لإبراز التشكيل الإنطباعي، ثم مالبث ان تحول الى اسلوب تحديد المساحات اللونية بخطوط سوداء ورفيعة، في خطوات صياغة عناصرالمشهد الطبيعي والمشاهد المعمارية والزهور المرسومة من الداخل والخارج معاً.
وفي لوحات اخرى، سعى إلى تحقيق رغبة بارزة بإطلاق الأشكال نحوالأجواء المأساوية (بالأخص في بعض لوحات الطفولة والوجوه) مع اتجاه آخر لإضفاء الشاعرية والرومانسية على بعض موضوعات المرأة والرجل، وعناصر الطبيعة والزهور، التي تفاوتت في معالجتها التقنية مابين الغنائية والشاعرية البصرية. وتبدو بعض المشاهد التي جسدها في مراحل سابقة، وكأنها جزء من الواقع الشرقي بمناخه وروحانيته،وعلى هذا فقد كان ولا يزال يعيد صياغة التشكيلات، التي تمتد إلى أصول تراثية مختلفة ومتنوعة، كمااعتمد تلميحاً وتبسيطاً للأشكال والعناصر التي جسدها في مراحل سابقة.
ولا يبتعد في لوحاته القديمة المرسومة بأقلام التلوين،عن أجواء رسوماته المتشكلة بألوان اخرى، فهو في كلتا التجربتين يذهب إلى تخطيطات انفعالية وتشكيلات لونية محددة، تحقق درجة من الشفافية، في فضاء لوحاته الاحدث. في حين كان يعتمد في السابق أكثرعلى تكثيف اللون في لوحاته الواقعية والانطباعية والتعبيرية.
خط فني خاص
فهو في هذه المرحلة يتعاطف في لوحاته وكتاباته (من ضمنها: كتابه الخط العربي بين الصنعة والفن التشكيلي) بكل مشاعره وبشكل كامل،مع معطيات اللوحة الحروفية العربية المعاصرة، معتمداً في تشكيل لوحاته الحروفية،على خطه الفني الخاص، الخارج عن القواعد الاتباعية والثابتة، رغم المامه بقواعد الخط العربي، وله بحوث مطبوعة في هذا المجال. وأعماله الأخيرة المستوحاة من علاقته المباشرة مع الدلالات الكتابية،قام بتشكيلها بعد ثلاثين عاماً من الاطلاع والتقصي والبحث والاختبار الفني، وفي خلفيات لوحات مرحلته الاخيرة، ملامح من مؤشرات التفاعل مع هذا الحلم الشرقي. حيث يستفيد في هذه المرحلة، من إمكانيات الدمج ما بين الخط، الذي يشكل رمزاً من ابرز واهم رموزنا الحضارية، وبين الخلفيات التجريدية الزخرفية، ويتواصل بتكوينات لوحاته الفسيفسائية المشغولة باللون،والتي تظهر،في احيان كثيرة،على هيئة واحات الزهور والتشكيلات الورقية النباتية، مع شعار الحداثة والاصالة للوصول الى لوحة حديثة بروح عربية،ولوحاته الحروفية تنحاز بشكل واضح نحو العفوية والتلقائية، وتبرزتداعيات مشاعره الداخلية الانفعالية والعاطفية عبر معطيات الحركات الانسيابية المشغول بألوان محددة وتدرجاتها،وقد تتداخل حركة الحرف مع ألوان الخلفية وزخارفها مع الاستفادة احياناً من بياض اللوحة الخام، الذي يصبح داخلاً في تشكيل اللوحة،التي يبحث من خلالها عن خصوصية فنية وتشكيلية مميزة وخاصة.
خلفيات زخرفية
هكذا يبحث عن مناخات جديدة للوحة الحروفية العربية، حيث يصوغها بقالب تشكيلي حديث وخاص يزاوج مابين إشارات التراث (المستمد من انطباعات تأملات الزخرفة والفسيفساء والرقش والنقش...) وتكاوين المنطلقات التجريدية في أبجديتها الغنائية (ايقاعات في خلفية اللوحة أقرب الى النثر الزخرفي العفوي) الذي يوحي بإيقاعات الموسيقا العربية بتنويعاتها الهادئة والمرتفعة.
وتظهر ايقاعات الكتابة العربية،في لوحاته كعناصر متجاورة ومتتابعة، تبحث عن تشكيلات عفوية بعيدة كل البعد عن المنهج التزييني البصري، الذي يتقيد بالتفاصيل وبهندسة الحرف وبأنماطه التسجيلية.
وفي جماليته التشكيلية الحروفية يقترب،من حركة الاداء التتابعي العفوي، الذي يحول المساحة اللونية إلى إطار ضروري،يحد من الرزانة الهندسية الدقيقة، حتى لا يقع في الانضباط العقلاني البارد الذي يعمل في كل مرة على تجنبه.
هكذا يبدو أكثر اتجاهاً نحو البحث عن إيقاعات وجدانية وعاطفية،تنحو إلى ايقاعات بارزة تعبر بتلقائية عن انفعالات غنائية، وتصل بالعمل التشكيلي، إلى انفلاتات خيالية مفتوحة على جمالية عصرية لتنويعات الرقش الفسيفسائي الحديث البارز في خلفيات لوحاته الحروفية.
وهذا الانتماء إلى ملامح المناخ الجمالي العربي والشرقي،يحتفظ بروح التراث المحلي، رغم ذلك الكسر، الذي يبعد اللوحة،عن التدقيق الذي يوحي بالمرجع الحروفي التسجيلي، فالمهم بالنسبة إليه أنه يستعيد إشارات الكتابة العربية، بالارتداد إلى الداخل، الى ذاته،ليخرجها من حيز صمتها وليجددها أو يستنطقها بالبوح الانفعالي المباشر، ولهذا تتدرج الحركة العاطفية صعوداً وهبوطاً عبر تدرجات الحالة الإنفعالية، من تلك التي تتجه نحو العفوية الزائدة من خلال اللمسات المتتابعة والمنفعلة،إلى المساحات الهادئة التي يغلب عليها الاداء العقلاني المركز، القادر على نسج علاقة مزدوجة بين العفوية اللونية، وبعض الملامح التشكيلية المدروسة.
مقاربات اللون
وتجربة محمود مكي الجديدة تبرز قدرة تقنية خاصة، تجعل الوانه متقاربة وبعيدة عن الصخب،الشيء الذي يبعده مسافات عن الأفكار المستهلكة والمتداولة، فهو يقدم في الغالب أجواء لونية متداخلة ومضاءة في اماكن متفرقة من اللوحة، ولاتعتمد على التنويع في الألوان الصريحة إلا فيما ندر، ولوحاته التي اتخذت منحى مختلف، هي تلك التي رسمها في بداياته بأساليب وبألوان مختلفة، متجهاً إلى البحث عن تركيب وتداخل المساحات، وهو يدخل في لوحاته الجديدة، في اطار تجربة مغايرة، لما كان مطروحاً في لوحاته القديمة المرسومة بالزيت وبأقلام التلوين وبمواد اخرى.
هكذا يبدي الآن رغبة في الانتماء الى ثقافة فنون اللوحة الحروفية، ويجهد لتقديم أجواء لونية أكثر اقتراباً من عوالمه الذاتية، في استخدام تقنيات متنوعة تحقق نسيج عوالمه التشكيلية الخاصة، ولايقتصر اعتماده هنا على تناثر البقع القريبة من اشكال الزهور، في حين يشكل حركة الحروف والكلمات والجمل بإيقاعات رمادية و خافتة تتخللها اضاءات ساطعة في أحيان كثيرة، وتساعده خياراته التقنية المائي والاكريليك والأحبار الصينية في تحقيق هذا الهدف.
وهويذهب في لوحاته الجديدة،إلى اكتشاف نظام لوني ذاتي فيه حركة الكتابة العربية، بل ويتجه قبل أي شيء آخر إلى سبر أغوار المواد اللونية. ولعل هذا الإيقاع أو تلك الرغبة البادية في ابتداع تكوينات جديدة تضفي حركة بصرية راقصة، وتذهب إلى بلورة تكوينات تراثية، تتهافت بعفوية كاملة وتعبر بتلقائية عن انفعالات شاعرية وغنائية.
ويركز محمود مكي على إظهار إيقاعات الحروف العربية،في صياغة تبرز فيها الكتابات المقروءة، إضافة لحضور الحروف احياناً في جوانب متفرقة من اللوحة، وهذا يزيد من حركة الايقاع الحروفي البصري، في الوقت الذي يذهب فيه إلى التدقيق في صياغة اللون ضمن حركة الخط،ساعياً لإيجاد حالة من التوازن بين العقل والعاطفة، ونراه يذهب في قسم آخرمن اللوحات إلى صياغة حركات حرة لحروف عربية مؤكداً انفعالاته وتبدلاتها.
ويضعنا في حروفياته الجديدة ضمن لغة تشكيلية خاصة، للوصول إلى فضاء تشكيلي حر، يحمل مقومات البحث عن صياغة حروفية حديثة، وبالرغم من أنه يصوغ في احيان كثيرة آيات وجملاً وحروفاً مكتوبة بعفوية، نراه حيناً آخر يخرج خلفية اللوحة بطريقة مدروسة، ثم يضفي مزيداً من الحركات الحروفية الحرة، التي يمكننا أن نقرأ فيها الكثير من العناصر الفنية والجمالية الحديثة والمعاصرة.
محمود مكّي من مواليد حلب عام 1950 درس الفن في مركز الفنون التشكيلية بحلب،وتخرج منه عام 1972، كما درس العلوم الفيزيائية والكيميائية بجامعة حلب،و شارك بمعارض مراكز الفنون التشكيلية السنوية،وحاز على عضية نقابة الفنون الجميلة، واتحاد الفنانين العرب، وأقام معرضاً شخصياً في صالة المتحف الوطني بحلب عام 1979، وآخر في صالة الأسد للفنون بحلب عام 2009 كما شارك ببعض دورات المعرض السنوي العام، وقام بتدريس التربية الفنية في مدارس حلب (مابين عامي 1972 و1975) و شارك بمعرض تحية إلى الفنان لؤي كيالي في حلب و دمشق، كما شارك بمعرض تحية إلى الفنان وحيد استانبولي في حلب والرقة،إضافة لمشاركته بمعرض تحية إلى الشاعر «حامد بدر خان» في صالة النادي الفلسطيني.
وهو يمارس النقد الفني التشكيلي في الصحافة المحلية والعربية، وأصدر مجموعة من الكتب الفنية النقدية المطبوعة، من ضمنها (سلسلة عالم الفن - دراسات في الفن التشكيلي الجزء الأول و الثاني و(موسوعة الفن التشكيلي في مدينة حلب - الجزء الأول) و (تقنيات الحاسب الآلي والكشف عن أسراره) و (صناعة العطور وكشف أسرارها) و (قصائد بدائية) و (مبادئ تحسين الخط العربي خط الرقعة) 4أجزاء و (مبادئ تحسين الخط العربي خط النسخ) 4أجزاء.
facebook.com/adib.makhzoum