وهناك حيث يجتمع الأهل والأصدقاء والأحبة تجد العديد من القصص الجميلة والغريبة أحياناً تسحرك بعطاء هؤلاء الناس وقدراتهم التي ليس لها حدود..
في كفر زيتا التقينا بالحاج (تركي سطام الخليل أبو النوري) وهو شيخ قارب الثمانين من عمره ولكنه لا يزال يتمتع بالحيوية والشباب والذاكرة المتقدة.
(أبو النوري) شخصية نادرة حين تتعرف عليها عن كثب, في مضافته يتحلق حوله أبناؤه وكنائنه وأحفاده يتنافسون على التقرب منه يبثون صدق محبتهم له, وهم ينهلون من حكمته وتجربته وغناه الروحي يبث فيهم روح العطاء والأمل, يجذبهم إليه في ظرفه ودماثته وسرعة بديهته يرتب الجلسة حسب حروف الأبجدية والغريب أن هذه الأحرف تتوافق بشكل تلقائي مع ترتيب درجة الذكاء لديهم والأذكى هو الأقرب دائماً ويحطم الحدود التقليدية التي تفصل بين الأجيال أحياناً, هو شيخ جليل كبير مع الكبار وطفل مع الأطفال والأحفاد وشاب يافع مع الشباب..
يقول (أبو النوري): إنه في أيام نشأته الأولى كان البلد يحتدم بالحملات العسكرية الفرنسية ولم تكن في القرية أية مدرسة ثانوية واضطر مع زميل له متفوق مثله في العلم أن يسافرا إلى حلب طلبا للعلم ورحبت أسرته بذلك وهيأت له السبل وسرعان ما اكتشف مدرسوه أنه من النوابغ وقالوا له: إنك وزميلك يا بني نتوقع أن تصبحا من الرؤساء لو أتممتما تعليمكما, وشعر أنه في غمرة الرعاية الحانية المفعمة بالحب والإعجاب وغمرت نفسه مشاعر الفرح والطموح..
وما أن مضت بعض الأيام حتى بدأ وجهاء القرية يوجهون اللوم لوالدي (كيف تترك ابنك الصبي يدرس في مدينة بعيدة ألا تخشى عليه)..
وبدأ يدب في قلب والدي العجوز الخوف علي فما كان منه إلا أن سافر على الفور ليعيد ابنه الطالب الطموح إلى القرية ولكي لا أتردد أو أناقش في الأمر أبلغني أن والدتي- التي كنت مولعاً بها- قد توفيت وعلي أن أعود فوراً.. وظللت أبكي أمي طول الطريق ما اضطر والدي أن يخبرني الحقيقة أنها مجرد حيلة كي لا يتمسك بي أساتذتي.. ما جعلني أبكي بشدة أكثر على ضياع مستقبلي وطموحي العلمي..
يقول الحاج تركي مستعيداً تلك الذكريات وكأنه يتأمل شريطاً سينمائىاً أمامه كان فرح الأساتذة بي لا يوصف كيف جعلني طموحي أسافر من تلك القرية النائية إلى حلب من أجل العلم..
ولا ينسى أنه كان يحضر واجباته مساء لا على ضوء الكهرباء التي كانت المدينة محرومة منها ولا على ضوء المصباح أو حتى الشمعة وإنما على ضوء القمر..
وكيف ينسى وقد حفظ لأحد الشعراء خمسة وسبعين بيتاً من الشعر في أقصر وقت ممكن ما فاجأ أستاذه الذي طلب منه أن يحفظها وقال له بالحرف الواحد.. إن شاعرها يا بني ما حفظها بهذه السرعة فكيف حفظتها أنت وتحت ضوء القمر.
يستمر الشيخ تركي وهو يسرح بعيداً في تأمل تلك الأيام التي مرت وعيناه الذكيتان تموج فيهما غيمة من الحزن على طموح أفل كان بالإمكان أن يجعله أحد علماء الوطن أو رجالاته المبدعين ولكن العقلية المتزمتة (وكلام الناس) غير الواعي وغير المسؤول فوت عليه تلك الفرصة الذهبية.
ولا ينسى الحاج تركي كيف حمى أحد المقاتلين في القرية (فوزي القاوقجي الذي طارده الفرنسيون ففر من مدينة حماة إلى قرية كفر زيتا والذي أصبح فيما بعد قائد جيوش الإنقاذ في حرب فلسطين عام 1948) من سطوة الفرنسيين بذكائه الفطري حين كانوا منهمكين في البحث عنه, وهكذا كان له دور في إنقاذ حياة هذا المجاهد من خلال فهمه مبتغاهم من الأسئلة التي كانوا يطرحونها فسبقهم إلى المكان الذي كان يختبىء به وأبلغه بالأمر فقال له المجاهد كيف فهمت ذلك يا بني قال: رأيتهم يستوقفون المارة بجانب بيدر القمح ويسألونهم ففهمت قصدهم فقال له: إنك المعري بذاته.
الحاج تركي (أبو النوري) واحد من آلاف الناس الذين اختزنوا في ذاكرتهم تجارب ومواقف نضالية وإنسانية لم تر النور ولم يسمع بها إلا مقربوه.. نتمنى أن تتاح الفرصة لهذه التجارب للتعريف بها وتقديمها لعامة الناس لتتعلم منها وتستفيد..
تحية لأبي النوري الذي علمنا كيف أن حب العلم قاده إلى السفر البعيد وأن يتعلم ويحفظ الشعر تحت ضوء القمر, تلك القصيدة التي نقتطف منها الأبيات التالية مما بقي في ذاكرة الشيخ تركي الخليل:
بنت العلا قسماً بفضل أبيك
ما شأن فضلك إلا جهل بنيك
هم علموك الاجتماع وقبلما
حان انفطامك عنوة فطموك