والجدير بالذكر أن الانتخابات العامة التي أسفرت عن فوز حزب العمال للمرة الثالثة, كانت بمثابة نصر كبير لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير على الرغم مما لحق بسمعته الشخصية من أذى بسبب قراره الانضمام إلى بوش في حربه على العراق, وهي الحرب التي لا يزال الكثيرون ينظرون إليها على أنها شنت بناء على مسوغات مطبوخة وزائفة ومضللة, وإنها لم تؤد إلى شيء سوى إلى الدمار والهلاك والموت.
وبسبب ذلك, فقد دفع بلير ثمناً سياسياً باهظاً لتحالفه مع بوش ومعسكر دعاة الحرب في أوساط المحافظين الجدد في واشنطن, فقد انخفضت اغلبيته في مجلس العموم والأكثر من ذلك, فقد ارتفعت الأصوات حتى داخل حزبه بضرورة تنحيه عن المسؤولية وإخلاء منصبه لوزير ماليته ¯¯ غوردن براون ¯¯ ذي الشعبية السياسية الواسعة لكونه مهندس الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته بريطانيا خلال السنوات الثماني الماضية, واليوم فإن الكثير من المراقبين الأوروبيين, ومن ضمنهم البريطانيون يتطلعون ويأملون كما يقول الكاتب البريطاني المتخصص بشؤون الشرق الأوسط السيد ¯¯ باتريك سيل ¯¯ في أن يبادر بلير إلى تصحيح موقفه وسياساته الخارجية التي اتبعها خلال فترتيه السابقتين في رئاسة وزراء بلاده. وفي مقدمة ذلك التصحيح بالدرجة الأولى طبعاً هو الاستقلال بسياساته نوعاً ما عن واشنطن, والسعي لإصلاح علاقاته مع جيرانه الأوروبيين بما في ذلك علاقاته مع كل من فرنسا وألمانيا اللتين تشددتا في معارضتهما للحرب والوقوف في وجه واشنطن.
لكن الحديث الذي أدلى به جاك سترو ¯¯ أخيراً في واشنطن, قضى تماماً على أية آمال وتطلعات لحدوث تصحيح بريطاني كهذا فقد أكد سترو أثناء حديثه أن التحالف البريطاني مع واشنطن هو تحالف استراتيجي ثابت وراسخ, ولا مجال للتراجع عنه أو الانتقاص من أهميته.
وحديث سترو المشار إليه يجعل بريطانيا لا تكتفي بصفة التبعية لواشنطن بل تزيد عليها وتقول إنها ¯¯ ببغاء¯¯ لواشنطن وبوق لها وليس أدل على ذلك من إمكان كتابة الكلمة التي ألقاها ¯¯ جاك سترو ¯¯ بقلم أي واحد من كتبة الخطابات الرسمية التي يلقيها الرئيس بوش. وهنا بعض الأمثلة مما جاء به خطاب ¯¯ سترو : (وكما أكد الرئيس بوش بعزم وقوة, فإنه لمن الأهمية بمكان ¯¯ بالنسبة لمستقبلنا ومستقبل كافة الشعوب والأمم أن ندعم نشر الديمقراطية على نطاق العالم كله) ومضى سترو قائلاً: ( إن ذلك الواجب يتسم بكونه عملياً بقدر ما هو اخلاقي.
فالديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضاً كما نعلم,كما تقل احتمالات تحول الشعوب والأمم التي تملك زمام أمرها وتسهم في رسم مستقبلها إلى شعوب وأمم متطرفة أو أن تنزع إلى الكراهية والعنف) ويخلص سترو من هذه المقدمة المطولة إلى القول ( ولكل ذلك, فإن من الواجب أن نجعل من المساهمة في نشر الديمقراطية, لب سياستنا الخارجية).
من المثير للدهشة هنا أن سترو استعار من خطابية الرئىس بوش, نفس الخواء الذي تتضح به تلك الخطابية فيما يتصل ب¯ ( الزحف إلى الأمام على طريق الحرية).
ومما لا ريب فيه أن هذه الخطابية إنما هي تعبير محكم عن المبدأ الذي ينادي به المحافظون الجدد الذي بشر به خلال الأعوام القليلة الماضية, المسؤولون الأميركيون الموالون لإسرائيل ومراكز الأبحاث والدراسات المعبرة عن إيديولوجية المحافظين الجدد في واشنطن مع العلم أن هذا هو المبدأ الذي قامت عليه سياسات إدارة بوش في الشرق الأوسط.
وقد تأكد المحافظون الجدد بعد هجمات الحادي عشر من أيلول أن هذه الهجمات قد تكون السبب الرئيسي للدعم الثابت والمستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة لاسرائيل في اضطهاد للفلسطينيين وبدلاً من مواجهة الحقيقة ووضع الحلول الناجعة لمشاكل الشرق الأوسط بإنهاء احتلال اسرائيل لجميع الأراضي العربية المحتلة فضل هؤلاء المحافظون دفن رؤوسهم في الرمال والقول إن الكراهية التي تحظى بها الولايات المتحدة ليست ردة فعل على السياسات الخارجية للإدارة تجاه المنطقة بقدر ما هي ناتجة عن السياسات (االمتخلفة) التي تتبناها النظم العربية نفسها.
وعليه فقد ترتبت عن هذا التحليل الوصفة السياسية التالية: ( اصلحوا الشرق الأوسط...انشروا الديمقراطية فيه..أعيدوا رسم الخارطة السياسية الجغرافية هناك وبعدئذ سترون كيف تقر عين واشنطن والغرب وتل أبيب!) هذا هو المبدأ الذي تشرب به كل من بلير ووزير خارجيته سترو, وفي هذا المبدأ خطر على السياسات الخارجية البريطانية لكونه يصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية التي تعانيها المنطقة جراء الاحتلال الأميركي غير المشروع للعراق والاحتلال الاسرائيلي غير المشروع لفلسطين والجولان, وما يرتبط به من تعد استيطاني وانتهاك للحقوق, وكم هو سهل على كل من بوش وبلير وسترو الانخراط في حلم الأماني والاوهام السعيدة بنشر الحرية والديمقراطية في المنطقة بدلاً من العمل الجاد والتصدي للمشكلات الحقيقية الملموسة على الأرض, ويتطلب هذا التعامل الواقعي مع المشكلات أن تبلور واشنطن استراتيجية خروج واضحة من العراق, وأن ترغم اسرائيل على تمهيد الظروف والمناخ الذي يؤدي إلى الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وحرصاً منه على ارضاء حلفائه الأميركيين, فقد عزف سترو على عدد من الأوتار والنغمات التي تطرب لها آذان واشنطن, ومما قاله مثلاً: (يهمنا أن نتابع ما بدأناه في العراق, ولا بد من إيقاع الهزيمة بالارهابيين) وبخصوص الوضع الفلسطيني استطرد سترو قائلاً في هذا الإطار: سيكون العمل من أجل دعم حل سلمي ديمقراطي للنزاع بين الطرفين وهو حل يقوم على الاعلان عن دولتين ديمقراطيتين تتعايشان معا في أمن وسلام, في صدر قائمة أولويات السياسة الخارجية البريطانية لكن هذه الصيغة التي يطرحها سترو تتحايل على المشكلة الجوهرية في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني إذ إن جوهر المشكلة لا يكمن في طبيعة الحكم أو النظام الذي سيرضى الفلسطينيون العيش في ظله إنما يتمثل هذا الجوهر في الاحتلال الاسرائيلي الوحشي للاراضي الفلسطينية وفي إقامة نقاط التفتيش وتقييد حرية حركة الفلسطينيين وفي تدمير أشجار الكروم والزيتون التي تقتلع منهاحالياً الآلاف وفي توسيع المستوطنات وإقامة الجدار الأمني.
إنه لمن المحزن, أن نرى بريطانيا وهي تعزف على هذا النحو الببغائي الألحان والكلمات ذاتها التي ترددها واشنطن ومع أن بريطانيا كانت قد وعدت في ظل قيادة توني بلير, أن تصبح جسراً واصلاً بين أوروبا والولايات المتحدة إلا أنها رددت خلال حديث سترو المعاني الجوفاء نفسها, التي يروق للبيت الأبيض سماعها:( نحن نعد بتعزيز وتقوية التحالف من أجل الحرية ما بين أوروبا وأميركا وها هي الكلمة الببغاوية نفسها تتكرر وتجتر ¯¯ الحرية ¯¯ ولكن كم تبدو فارغة ومخادعة عندما ترتطم بصخرة الواقع الحي الملموس في كل من العراق وافغانستان.
وحتى تلعب أوروبا دورها الدولي, وتعمل على نشر قيم حقوق الإنسان والتسامح والعدل الاجتماعي علماً بأن هذه القيم هي أساس الديمقراطية ولبناتها فإنه ينبغي لها أن تكون قارة موحدة وأن تنال فيها بريطانيا العضوية الكاملة داخل الاتحاد الأوروبي لكن يبدو وللأسف أن توني بلير وجاك سترو لديهما قناعة أخرى مختلفة تماماً عن تلك التي يتمتع بها الأوروبيون.