ومن الغباء المستفحل التوهم أن من خططوا لحرب شبه كونية لتفتيت سورية قد يشعرون بتأنيب الضمير على الإرهاب الذي تم تصديره إلى الداخل السوري وما خلفه من إجرام وقتل وتدمير ممنهج ومجازر لم تعرفها البشرية على امتداد تاريخها الطويل.
فالانعطافات التي تظهر في مواقف بعض أطراف التآمر والعدوان ليست أكثر من وقفات تعبوية لتصحيح ما يتم اكتشافه من أخطاء في الحسابات، وما يترتب على ذلك من ارتفاع التكاليف والنفقات التي يبدو أنها تفوق طاقة الـتحمل لدى أولئك فيما لو امتدت ألسنة اللهب أكثر، لا بل إن القسم الأخطر من التكاليف المحتملة قد غاب عن أصحاب الفكر الشيطاني الذي يخطط لمثل هذه الحروب المفتوحة، فالمؤشرات على ذلك بدأت تظهر بوضوح حاملة معها تهديدات جدية للأمن والاستقرار في الدول الراعية للإرهاب والعدوان عبر إمكانية عودة أصحاب الفكر التكفيري القادر على حمل مشروع الإرهاب العابر لحدود الدول والقارات، وهذا ما فرض على زعماء الدول المتورطة في سفك الدم السوري تغيير لهجة الخطاب وبخاصة بعد الانتصارات الميدانية المتتالية للجيش العربي السوري والانهيار الشامل الذي أصاب العصابات الإرهابية المسلحة التي تتهاوى بالجملة والمفرق في جميع ساحات المواجهة الميدانية وبتسارع متصاعد يفوق إمكانية الدول الراعية على التعامل مع تداعياته، الأمر الذي أعطى الموقف الروسي زخماً إضافياً ومصداقية أكبر في جميع المحافل واللقاءات الدولية التي تجد لزاماً عليها التوقف عند ما يحدث في سورية، واستبدال لغة التهديد والوعيد بلغة تأخذ بالحسبان الواقعية الميدانية والسياسية والاصطفافات الجيوبوليتيكية الجديدة التي أفرزها الصمود السوري في مواجهة حرب عالمية على امتداد سبعة وعشرين شهراً، وهذا يؤكد أن تخفيض السقوف العالية التي تم الإعلان عنها لم يكن تعبيراً عن شعور أولئك بالذنب جراء مواقفهم التي أدت إلى سفك المزيد من دماء السوريين، وليس بسبب اقتناعهم بالحل السياسي حرصاً على حياة الشعب السوري الذي يذرفون عليه دموع التماسيح، ويعملون في الوقت ذاته على الانتقام منه لأنه أسقط المشروع الأمريكي ـ الصهيوني ـ الأوروبي ـ العثماني ـ الخليجي ـ الإخواني ومنع المستعمرين الجدد من تنفيذ ما تفتق عنه الفكر الاستعماري من خطط شيطانية لتدمير المنطقة عبر عملية تفكيك وتركيب بهدم البنى السياسية القائمة وإعادة بنائها على أسس عرقية وطائفية ومذهبية وفق ما تضمنه مشروعا الفوضى «الخلاقة» و»الشرق الأوسط الجديد» الهادفان إلى تفتيت المنطقة وترك مستقبل جميع دولها مفتوحاً على المجهول، إلا أن الصمود الأسطوري لسورية شعباً وجيشاً وقيادة عصف بأحلام تجار الحروب وأعادهم جميعاً إلى المربع الأول من الصراع.
من تابع التغطية الإعلامية لاجتماع الثماني الكبار في إيرلندا الشمالية يدرك أن الخطاب الذي تم تسويقه على مدار أكثر من يومين يتناقض والبيان الختامي الذي صدر بموافقة الجميع، فالجعجعة الأمريكية الأوروبية التي سبقت اللقاء ورافقته تبخرت من البيان الختامي، والعنتريات التي خيمت على اللقاءات الثنائية والمؤتمرات الصحفية التي عقدها الرئيس الروسي السيد فلاديمير بوتين مع زعماء بقية الدول كانت توحي بإصرار أولئك على التصعيد والمضي إلى أبعد مما قد يخطر على الذهن، حتى ولو أدى الأمر إلى إصدار بيان بتوقيع الدول السبع وترك روسيا تضرب رأسها بجدار «الأمر الواقع»، وبقدرة قادر يذهب كل ذلك أدراج الرياح ويطل قيصر العصر بكامل هيبته وقد تحلَّق الآخرون حول طروحاته وحولوها إلى بيان ختامي وافقوا عليه بالإجماع، أي إن الجعجعة الغربية التي علت وارتفعت بقيت في إطار الجعجعة في حين كان المارد الروسي يجهز أكياسه التي امتلأت فعلاً بطحن روسي صرف أفرزته طاحونة لقاء الثماني الكبار، وهذا ما تجسد عملياً عبر ما يلي:
1- خلو البيان الختامي من أي إشارة تتعلق بذكر السيد الرئيس بشار الأسد والاشتراطات التي كان زعماء الدول السبع يرددونها كلازمة لا غنى عنها في أي تصريح لهم، وهذا يعني تسليم أولئك بالموقف الروسي المتضمن أن مستقبل سورية وتحديد من يحكمها أمر يقرره الشعب السوري وحده، وعبر صناديق الاقتراع، وليس من حق أي جهة خارجية أن تملي على السوريين رغبتها أو تمنياتها بهذا الخصوص.
2- تبدل الحديث عن تسليح ما سموه معارضة بأسلحة نوعية فتاكة والاستعاضة عن ذلك بسماع الزعماء الآخرين وهم يتحدثون عن مخاوفهم من عودة المسلحين الذين يقاتلون في سورية إلى أوطانهم ودولهم، وما يحمله هذا من خطر على الأمن والاستقرار في تلك الدول.
3- اختفاء الحديث عن منطقة حظر جوي فوق أي بقعة جغرافية في سورية، وارتفاع حدة الصوت الروسي الرافض لذلك.
4- مطالبة المسلحين الذين يسمونهم غير متشددين بمحاربة القاعدة وفروعها بتسمياتها المختلفة، وهذا أمر على غاية الأهمية، وإن أعلنت الميليشيات الإسرائيلية التي يسمونها « جيشاً حراً» أنها لن تلتزم بذلك، إلا أن تضمين البيان الختامي المطالبة بمواجهة من سموهم المتشددين أمر لم يكن يخطر على ذهن أكثر الناس تفاؤلاً، وعلى من وقعوا على البيان الختامي تقديم الحجة لتبرير موقفهم الداعم لما سموه مسلحين غير متشددين.
5- تلاشي الأحلام والأوهام التي كانوا يروجونها حول التداعيات الدراماتيكية التي قد تتفتق عنها مناورات «الأسد المتأهب» في الأردن والتي اشتركت فيها /19/ دولة.
وأخيراً وإن تفننت أطراف التآمر والعدوان في توزيع الأدوار والمناورة، فحاضر سورية ومستقبلها يحدده الشعب السوري وليس غيره، ومن ينشد الحل السلمي يدعو للحوار وإلقاء كل سلاح غير شرعي، ولا شرعية لأي سلاح إلا سلاح الدولة، وأبناء سورية حسموا أمرهم وقرروا الاستمرار بتهيئة الأجواء المناسبة للخروج السلمي الآمن الذي يحافظ على سيادة الدولة وأمن الوطن والمواطنين، وفي الوقت نفسه متابعة ملاحقة ما تبقى من فلول العصابات الإرهابية المسلحة حتى القضاء على آخر إرهابي، وهم على ثقة مطلقة بالنصر الحتمي القادم رغم أنوف المعتدين والمتآمرين والمستعربين والخونة المأجورين.