والعيد انتظار الاقارب والأحبة (الكبار) وما تجود به ايديهم (عيدية) لكل منا - نحن الصغار والعيد - بعد زيارة أمواتنا- وقبورهم - وبعد صلاة الصبح, يكون فيه لزاماً وصل ما انقطع أو ما وهن من علاقات مع الجيران ومع الآخرين ومن المعارف, وربما مع الزملاء والأتراب ورفاق العمل... الخ وثمة الواجب الأساسي: صلة الرحم زيارة الآباء والآبناء والأجداد, والأشقاء وأولادهم وبناتهم والشقيقات وأبنائهن وبناتهن, إلى جانب الخالات والعمات والأخوال والأعمام.. كل الأهل والأقرباء - وثلاثة أيام قد لا تكون كافية لمن هم في بلادهم وأوطانهم مستقرون - لكنها بالنسبة لفلسطينيي العراق وملايين من فلسطينيي الشتات أكثر من كافية, إن شرب ملح الدموع- يصبح الديدن الذي لا بد منه, فقد تكون قطرات الدموع وسيلة اطفاء الحرائق الداخلية المتأججة في الأفئدة وفي الأكباد أيضاً.
أي عيد لمن يجد نفسه في صباح العيد وحيداً إلا من دمعة وحسرة بعد مغادرة المسجد وانتهاء صلاة العيد? ليس إلا بضع كلمات مرسلة منه أو إليه - بالموبايل- مسجات- يقول أو يقولون- رسائل نصية سريعة - إلى الأحبة القابعين وراء الحدود - (رسائل تقول) إلى أحبة إن قصدناهم قد لا نصل إليهم إلا وقد لفظنا الانفاس الأخيرة - فلا ننعم برؤيتهم ولا ينعمون بمداعبة أمل لهم بحتمية أن نلتقي يوماً ما - يجيء حتماً- ولا ريب فيه ... وإن كان يبدو اليوم لنا بعيداً جداً?.
وكيف شكل العيد والأبناء الصغار يفتحون العيون عى صورة للوالد حسب - إن كانت الصورة باقية ولم يتم التخلص منها (كونها تهمة) يمكن أن تودي بهم وبأمهم إلى التهلكة بجريمة (الاحتفاظ بصورة ارهابي) - أو جريمة الزواج منه- أو اقتراب جريمة أكبر هي ولادة أبناء له)?
وكيف شكل العيد في (القطاع) اليوم - والحصار منع النسمة- واللحمة معاً- والحصار منع الاسبرين والحركة ايضاً? اين القدرة على الحياة الطليقة للطفولة?
بعد ثلاثة أعوام من احتلال العراق رجع طفلاي التوءمان بصحبة أمهما - بعد زيارة بغداد ومكوثهم هناك ثلاثة أشهر, وصلوا مع أمهم ليلاً. التوءمان (الولد والبنت) كانا في منتصف السنة الثالثة من العمر وفي الصباح اصطحبتهما إلى الدكان القريب من البيت - كان ثمة عدد من السيارات تقف لصق بيوت أصحابها هز ابني - ابن الثانية والنصف من العمر - يدي وتساءل: أهذه السيارة الوسطية هناك (مفخخة)?
- لا حبيبي- ليس هناك سيارات مفخخة هنا, عاد إلى السؤال: والأمريكان ماكو امريكان? وانفجارات..و.. و.. فقاطعته: لا, حبيبي أبداً لن تجد منهم هنا أحداً, فضحكت شقيقته وقالت: يعني إحنا مو ببغداد? قلت لها طبعاً نحن لسنا في بغداد صرخا معاً: بعد ما نريد نرجع لبغداد بابا.
سرق الاحتلال طفولة العراقيين - الصغار- وكان الاحتلال الصهيوني قد سرق منا نحن أيضاً طفولتنا, وها هو ذا المحتل هناك في الضفة وفي القطاع وفي عموم فلسطين يغتال الطفولة ويصوب بنادقه إلى أحلامها ليرديها صريعة - ضحية تلتحق بركب الضحايا الذي له أول وليس له آخر, كذا الأمر بالنسبة للعراق المحتل: إن الاحتلال الأميركي مزق ألعاب الأطفال- وشتت انتباه الكبار - سرق الضحكة, ومنعها من التحليق - احرق جناحيها مع سبق الاصرار - من الصغار ومن الكبار.
وهو من يقطع الطريق اليوم أمام التواصل - في الأعياد- إنه يقطع الوصل بين الرصافة والكرخ وبين الأعظمية والكاظمية وبين البياع والدورة وبين بغداد الجديدة والباب الشرقي وبين حي السلام والشعلة, والتساؤل: كيف يزور (فلان) من الناس - فجر يوم العيد- أباه الراقد في (مقبرة الكيلاني) في الرصافة - وابنه الراقد في مقبرة (الكرخ الإسلامية).
إذا كانت الفرحة واجباً - سنة, في الحد الأدنى إن لم تكن فرضاً على المسلمين, (في الأضحى كما في الفطر), فليس ثمة اليوم ما يجعلها فعلاً مجلبة للحبور, وهل علينا دائماً أن نردد (عيد بأية حال عدت يا عيد) - وحتى إن ثرنا على منغصات موضوعية جعلت الأعياد لدينا مناسبات حزن والم واحتراق قلوب شوقاً, واعطاب أكباد فرقاً? أفليس من واجبنا - في الأعياد كما في سواها من الأيام أن نبحث في فعل (حقيقي) يعيد إلى أعيادنا بهجتها- إلى أحلام أطفالنا حيويتها- إلى أرحامنا تواصلها - إلى أيام تكون فيها انتظارات الاعياد مديدة وطويلة وحبلى .. ومترعة بالأمل والصور الجميلة - حتى إن بدأت بزيارة المقابر - لكنها ستكون متبوعة بشعور عارم بالطمأنينة والقناعة والحب الذي يظللنا جميعاً- ويرقص منا الأفئدة على ايقاعات الانجاز قبل أن يحرك الطرب أرجلنا لنرقص أو ندبك... وقبل أن نبلل حناجرنا بالغناء دون عيوننا بالدموع.
nawafabulhaija@yahoo.com