تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


غياب المكان

ملحق ثقافي
23/3/2010
د.علي محمد سليمان : لو عاش روبنسون كروزو في أيامنا لما تحول إلى بطل روائي أو أسطورة خلدتها المخيلة البشرية كتعبير عن قدر الإنسان في مواجهة مغامرة الحياة وقدر الفقدان.

كان روبنسون كروزو سيستخدم ببساطة نظام GPS في هاتفه الجوال ليتعرف على موقع الجزيرة التي وصل إليها. وكان أصدقاؤه وأهله سيسارعون للبحث عنه على موقع Facebook لمعرفة أخباره وإعادة التواصل معه. ويبدو ذلك في أيامنا رغم مفارقته بمثابة البداهة لأن الجزيرة التي لجأ إليها روبنسون كروزو لا بد أنها تحتوي على إتصال بشبكة الإنترنت.‏

شكلت مواضيع الرحيل والضياع والفقدان إلهاماً للمخيلة الأدبية على مر العصور منذ أن مارس الإنسان موهبة السرد والتعبير عن قلق الوجود بالحكايات. فمنذ الأوديسة والملاحم الأسطورية في العصور القديمة مروراً بالتعبيرات السردية الملحمية في العصور الوسطى مثل ألف ليلة وليلة وحتى مرحلة متقدمة من القرن العشرين كان الأدب دائماً مفتوناً وشغوفاً بتجربة الضياع والفقدان. كانت هذه التجربة واقعاً في الحياة الإنسانية التي كانت محكومة إلى حد بعيد بواقعية المسافة الجغرافية وبغياب وسائل الاتصال والتواصل التي نعرفها اليوم. وهناك عدد كبير من الأعمال الأدبية التي قامت حبكاتها ومواضيعها على حدث فقدان التواصل بين بشر تنأى بهم المسافات وتفرق بينهم عوالم نائية. وكم رواية أو فيلم عالج كيف يكتشف لإنسان في تجربة ما أن من كان يعتقد أنه في عداد الأموات بعد انقطاع أخباره في رحلة ما أو حرب أو كارثة إنما هو حي يرزق. ولعل الأدب الروائي في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية من أكثر النماذج وضوحاً وغزارة في هذا السياق، حيث شردت الحرب الكثير من البشر وفقد الكثير من الناس أحباء أو أصدقاء وكان عليهم أن يمضوا عقوداً في البحث عن المفقود دون أي دليل يرشد إلى احتمال وجوده على قيد الحياة.‏

فهل فقد الأدب اليوم ذلك الموضوع الذي شغف به لعصور عديدة؟! لم يعد هناك بالتأكيد إمكانية لوجود روبنسون كروزو معاصر، وستبدو الكثير من حكايات ألف ليلة وليلة في عصرنا تعبيرات عن تجارب غير ممكنة في عالم لم يعد فيه إمكانية للضياع أو الفقدان بالمعنى الجغرافي. لقد حدث تحول كبير في حياة الإنسان بسبب وسائل الاتصال والتواصل الرقمية، وهو تحول من العمق والخطورة بحيث فقدت المسافة واقعيتها ولم تعد ظرفاً موضوعياً حاسماً في تحديد مصائر البشر. وتحول المكان في سياق هذا التحول إلى معطى رمزي أو افتراضي يعبر عنه بالأرقام التي تؤشر إلى قياس المسافات في الرحلات الجوية أو بالخطوط التي تؤشر إلى وجود المكان على الخرائط.‏

ومن ناحية أخرى ساهمت وسائل الاتصال الرقمية في نشوء واقع جديد يبدو أن الإنسان المعاصر قد اطمأن فيه إلى العوالم الافتراضية التي خلقتها شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت بشكل يوحي بأننا في طريقنا إلى تجربة اغتراب وضياع جديدة. إنها تجربة الاغتراب عن الواقع الموضوعي بمسافاته وتعددية أمكنته واستبداله بفضاء الكتروني متحرر من شروط المكان ومن واقعية المسافة. ولا شك هنا أن مفهوم الموضوعية قد أصبح مصطلحاً مستهلكاً ينتمي إلى عصور مضت حين كان واقع البشر قابلاً لإنتاج صور أو سرديات جمعية مشتركة حول العالم والتاريخ. ربما كان هذا صحيحاً إلى حد بعيد، ولكن تجربة التواصل الإنساني خارج قوانين المكان وبمعزل عن شرط المسافة هي تجربة جديدة في تاريخ البشر ولا شك أنها تحمل أسئلتها الغامضة التي لم تكتمل بعد ولم يتضح أفقها.‏

لم يعد في هذا الواقع الجديد من إمكانية للضياع أو للابتعاد. أصبح الإنسان موجوداً في مجال الرؤيا الدائمة وأصبح من المتعذر عليه أن يختفي في جغرافية هذا العالم.‏

وفي سياق هذه الغربة عن المكان، يبدو أن الأدب وحده هو القادر على صياغة وعي الإنسان بشرط وجوده في المكان. ويمكن للتجربة الجمالية التي يقدمها الأدب، والرواية تحديداً، أن تساهم في إنتاج حساسية جديدة لا تستسلم لقدر الإستلاب الكامل الذي يعاني منه البشر تجاه العوالم الافتراضية. يشير الناقد روبرت تالي في هذا السياق إلى مقاربة جورج لوكاتش لجماليات المكان في الرواية. يقارن لوكاش في نظريته حول الرواية بين الحضارة المنسجمة والمتناغمة والمستقرة لعالم الملاحم القديم وبين الواقع المتناقض والمتعدد لعالم الرواية الحديث. يطل العالم الأول من ذلك العصر السعيد، حينما كانت السماء الساطعة بالنجوم هي خريطة الكون بكل ما يحتويه من إتجاهات واحتمالات، وحينما كان العالم وطناً مألوفاً رغم إتساعه وأسراره. إن هذا الشعور بالانتماء وبالعلاقة الهارمونية بين الإنسان وبين الكون ألغى الحاجة إلى الفلسفة، كما يقول لوكاش. فما هي الحاجة إلى الفلسفة في عالم لا يحتاج خرائط؟‏

أما العالم الحديث الذي تعبر عنه الرواية فإنه يتميز بالإنفصام والتناقض بين الداخل والخارج وبإحساس كلي بالتشتت والضياع. إنه عالم هجره خالقه وتركه لغربة وجودية عميقة ولأحساس مقلق بفقدان المكان. ويشير روبرت تالي إلى أن هذه الغربة والوحشة المكانية ولدت الحاجة إلى الرواية. ذلك أن عصر الرواية يتطلب خريطة ما، أسلوباً توضيحياً ما لربط الإنسان بعالمه كفضاء وكمكان. إن وظيفة الرواية في عالم الحداثة هذا هي تماماً أن تكون خريطة يمكن للروائي أن يقدم من خلالها أسلوباً لوعي ولمعرفة المكان، أو ربما صورة ما لهذا المكان.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية