ضم خمس عشرة لوحة، منها لوحتان منفذتان بقلم الرصاص والفحم وألوان الخشب، وخمس لوحات بالألوان الزيتيّة، وثماني لوحات مائيّة، تستوحي جميعها، عوالم الأديب والفنان المعروف «جبران خليل جبران» لا سيما أشعاره المغناة المفعمة بالصور الساحرة القادرة على تحريك خيالات الفنان وإسعافه، في عملية استيلاد أشكال قادرة على التماهي مع روح القصيدة، وتحويلها إلى خطوط وألوان ورموز، هي في المحصلة، قصيدة جديدة أعيدت كتابتها بالخطوط والألوان والإشارات التشخيصيّة، القادرة على وضع المتلقي، في المناخ العام لأجوائها ومضامينها ودلالاتها.
ظاهرة قديمة
محاولة مقاربة التشكيل للأدب عموماً، وللشعر على وجه الخصوص، ليست جديدة. إذ لطالما تبادل الشاعر والفنان الإلهام، والكشوف والتأثيرات المتبادلة فيما بينهما، فقد أخذ الفن التشكيلي رسمة كان أم لوحة، أم تمثالاً، أو محفورة مطبوعة، الكثير من الصور الجميلة، والحساسيّة الشكليّة، والغنائيّة اللونيّة، من الشعر. والعكس صحيح أيضاً. إذ طالما استلهم الشاعر فيض خيال الفنان التشكيلي وتجلياته، لتأتي قصيدته مفعمة بالألوان والخطوط والتجسيمات، بحيث تكاد أن تبصرها العين، بين ثنايا الحروف، وتلمسها اليد، في تعرجات الجمل، وخير مثال نسوقه على ذلك الكتاب الشيق الذي ألفه الدكتور عبد الغفار مكاوي تحت عنوان «قصيدة وصورة/الشعر والتصوير عبر العصور» والصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة عام 1987،والذي استعرض فيه أربعاً وأربعين لوحة ومنحوتة ومحفورة عائدة لفنانين معروفين ينتمون لأجيال مختلفة، ألهمت شعراء كثراً، بقصائد خالدة. من هذه الأعمال: فينوس لميلو، ومولدفينوس لبوتشيللي، والموناليزا لدافنشي، والليل لأنجلو، ومحاضرة في علم التشريح لرامبرانت، وإعدام الثوار لغويا، وحقل القمح والغربان لكوخ، والصرخة لمونش، والثورة لشاغال، والزرافة المحترقة لدالي ... الخ.
يقول د. مكاوي، أن التأثير المتبادل بين الفنون «خصوصاً فن الشعر وفن الرسم» قصة طويلة، يقدر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن في الغرب والشرق، وهي قصة مثيرة ومحيرة، تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، عن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص.
جبران وزيات
ضمن هذا السياق، يأتي معرض الفنان الرائد الياس زيات المعنون «إلى جبران» حيث استلهم زيات شعر جبران، وحاول ترجمته إلى رسوم وألوان تفيض بالعاطفة والصور الجميلة التي التقطتها مخيلة جبران، وجسدها بالكلمة أحياناً وبالرسم والألوان، أحياناً أخرى، ذلك أن جبراناً امتلك ناصية الفنين معاً. الأمر نفسه ينسحب على زيات، فهو رسام ومصوّر من جيل ما بعد الرواد الأوائل، وله باع طويل في التعامل مع الحرف الذي يتقن تنضيده في النصوص الأدبّية والشعرّية، بنفس القوة التي ينضد فيها، الخط «الرسم» واللون في جسد الرسمة أو اللوحة.
استمرار ومتابعة
والحقيقة، فقد احتضنت لوحات الفنان زيات، منذ البدايات الأولى لتجربته، موضوعات إنسانيّة وحضاريّة شفيفة، محملة برموز ودلالات وإسقاطات مأخوذة من الحياة اليوميّة والأسطورة والتاريخ. قدمها ولا زال يقدمها، بأسلوبه الواقعي التعبيري المتزن والمكتنز على خبرة لونيّة وغرافيكيّة عالية، جمّعها خلال تجربة فنية طويلة تجاوز عمرها نصف قرن من الزمن، ولا زالت حتى الآن , تنبض بالحيويّة والتألق، وتتحرك ضمن الخطوط العريضة التي رسمها لها، محافظةً على المرجعيات والمنصات التي انطلقت منها، رغم الانعطافات والتلونات التي عاشتها خلال مسيرتها الطويلة والثرية.
فأعمال معرضه الأحدث، كما أعماله السابقة، تنهض على القيمتين الرئيستين في التصوير وهما: الخط «الرسم» واللون، والشكل والمضمون اللذين يراهما عملية متكاملة. فالرسم هو معنى وخيار، وهو ابتكار، كما أن اللون هو معنى وخيار وابتكار. ويرى أن الفن المعاصر من «سيزان» إلى «كاندينسكي» نقض نظرية الفصل بين اللون والرسم، فقال رواده أن الرسم هو أيضاً ذاتي ويجب أن يُعبّر عن وجهة نظر الفنان، كذلك اللون.
مزاوجة الرسم واللون
في كل إنتاج جديد له، وككل المعلمين الكبار الذين خبروا أدوات التعبير التي يشتغلون عليها، وأتقنوا عملية التعامل معها، يمنح الفنان الزيات القدرات التعبيريّة القصوى لكل مادة لونيّة يستخدمها في إنجاز لوحته، مزاوجاً «وبشكل دائم» بين الرسم واللون , ومؤخراً الكلمة التي أخذت حضوراً لافتاً في أعمال معرضه الأحدث، وهو أمر بديهي، إذا علمنا أن الفنان الزيات بدأ الكتابة قبل الرسم، وكانت كتاباته شعريّة مجنحة، وهو لم ينقطع أبداً عن اجتراح فعل الكتابة،الذي واكب الفعل الإبداعي الآخر, وظل لصيقاً به حتى الآن .
تحمل لوحة الفنان زيات جرأة كبيرة في استخدام الألوان المتضادة كالأحمر والنيلي والبرتقالي والأصفر والأخضر والأبيض، حيث يقوم بفرشها داخل جسد اللوحة، بتداخل مدروس ومتوازن، ضمن مساحات صغيرة أحياناً، وواسعة أحياناً أخرى، ثم يقوم بزرعها بموتيفاته ورموزه وأشكاله، ما يخفف من حضورها الطاغي ويوازنها. هذه المعالجة تحملها الأعمال المنفذة بألوان الزيت، حيث يبدو الفنان شغوفاً باستخدام حشد كبير ومتباين من الألوان القويّة، ولكن خبرته الواسعة، ودرايته بأسرار التعامل مع أداوت تعبيره، تخضعها لحالة من التوافق، وهذه الحالة، تبدو أكثر وضوحاً في الأعمال المنفذة بالألوان المائية التي تنتقل إليها برودة المادة التي جاءت منها، أما الأعمال المنفذة بقلم الرصاص والفحم وألوان أقلام الخشب، فتعيش حالة عالية من الانسجام والهدوء والاختزال الشكلي المعبّر.
تجربة راسخة
المتابع لتجربة الفنان الياس زيات، يجد أنها نهضت منذ بداياتها الأولى، على مقومات فنيّة راسخة، عمليّة ونظريّة، تأتي في مقدمتها الموهبة الأصيلة والمبكرة التي بدأت بالظهور والتبلور مطالع خمسينيات القرن الماضي، وهو على مقاعد الدراسة الإعداديّة، حيث كان يجوب مع عدد من زملائه، مراسم الفنانين المتقدمين عليهم أمثال: ميشيل كرشة، وناظم الجعفري، ونصير شورى. وكان هؤلاء يوجهونهم ويرشدونهم، وهو أمر لم يعد قائماً الآن. ثم تأتي الدراسة الأكاديميّة في مصر وبلغاريا والمجر،وقيامه بتدريس مادة الرسم والتصوير وتقاناتهما ,في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق , منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى احالته الى التقاعد ,منذ سنوات , ما وفر له حصيلة فنيّة كبيرة، تحرسها وتواكبها، حصيلة فكريّة نظريّة وبصريّة، جّمعها من القراءة، ودراسة تراث وحضارة بلاده. هذا الأمر كما يقول الفنان الزيات، أخذ منه ردحاً طويلاً من الزمن، إذ لا بد أولاً من المتابعة النظريّة، ثم تأتي الناحية العمليّة، أي البحث عن قناة لتخرج هذه التفاعلات الحضاريّة الفنيّة في العمل الفني المعاصر.
لقد تعلم الفنان الزيات في الأكاديميات ومن آثار بلاده، بصفاتها الجماليّة والإبداعيّة والحضاريّة وعلاقتها فينا كشعب عريق، يعيش في هذه المنطقة من العالم. وهكذا، قام الفنان الزيات، بتوظيف دراسته وإطلاعاته بشقيها النظري والعملي، لخلق فن جديد مستوحى من الحضارات السورية المختلفة، وليس تكراراً لها، الأمر الذي مكنه من التقاط خط يمثل كافة الفنون التي ظهرت في منطقتنا التي تمد ذراعاً إلى بلاد الرافدين وذراعاً إلى مصر وفلسطين، لتشكل وحدة متكاملة، لها صفات متميزة ومشتركة، تأخذ وتعطي من بعضها، وقد تجذرت فنون هذه المنطقة لتعطي حضارات هامة، تربطها جملة من الوشائج العميقة. وقد أستلهم الفنان الزيات من هذه الحضارات شيئاً يمكن قراءته بسهولة ووضوح، بين ثنايا ألوانه وخطوطه وشخوصه ورموزه والكتابات التي يوشي بها «أحياناً» لوحاته.
والمتأمل المتبصر في هذه اللوحات، لا بد أن يكتشف مرجعيات حضاريّة سوريّة كثيرة موجودة فيها، بدءاً من نسبة الرأس إلى الجسم في الشخوص، إلى الملامح التدمريّة، إلى تأثيرات الأيقونة اللونيّة والخطيّة، إلى الخصائص الشعبيّة, ورموز الحياة اليوميّة، وغير ذلك من خصائص وملامح الفنون السوريّة المتعددة والمختلفة. هذه الفنون التي تنتمي إلى الفكر الشرقي، أو هي تجسيد حقيقي لهذا الفكر الذي يتميز بالانكفاء إلى الذات، ورؤية الأشياء الطبيعيّة الواقعيّة الموضوعيّة من خلال الذات، وإعادة تركيبها وإعطائها معاني جديدة.
تواصل المراحل
في كل معرض جديد له، يحاول الفنان الزيات، الجمع بين أكثر من مرحلة في تجربته الغنية والطويلة، وصولاً إلى خلاصة مأخوذة من أكثر من مرحلة، وهذا الأمر يبدو جلياً وواضحاً، في أعمال معرضه الأحدث، حيث نرى في اللوحات الزيتيّة، أطياف مرحلة الستينيات من القرن الماضي، التي كانت مرحلة تفجر لوني. ونرى ملامح مرحلتي السبعينيات والثمانينات، حيث عكف خلالهما، على اختزال اللون وتلخيصه، إلى لون واحد وتدرجاته، ومن ثم قيامه بالرسم على هذه الخلفيات اللونيّة. ونرى أيضاً، أصداء من مراحل أمعن فيها باختزال الشكل وتلخيصه،فوصل به إلى حدود التجريد.
بغض النظر عن العنوان العريض لمعرضه الأخير «إلى جبران» نجد أن الموضوعات التي عالجها الفنان الزيات في أعمال هذا المعرض، لا تختلف كثيراً وجوهرياً، عن موضوعات لوحاته السابقة، المتمحورة حول الإنسان، والطبيعة، والأسطورة، والحضارات السوريّة خصوصاً،والشرقيّة عموماً, والتماهي المدهش بين كل هذه العناصر والتأثيرات، وشخصيته
الهادئة،
المتأملة,المحبة,المفكرة, العميقة, الخبيرة, والتلقائية البسيطة في آن معاً. ولأن لكل تقنيّة لونيّة خواصها ومزاياها الشكليّة والتعبيريّة «وهو الأستاذ السابق لتقانات الرسم والتصوير بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ومؤسس مختبرها، والخبير المتمكن منها» فقد علم جيداً كيف يوظفها في أعماله، وفقاً للفكرة التي يريد استنهاضها فيها، وللمعمار التشكيلي الذي رسمه لمنجزه البصري، وأراد إشادته فيه، اعتماداً واتكاءً، بالقدر نفسه، على قدرات الرسم واللون، ما يجعلنا نؤكد أننا أمام رسام متمكن، وملوّن خبير، يتقن جيدا عملية التوفيق بين القيمتين،و وضعهما في خدمة عمارة اللوحة التشكيليّة, ودلالاتها ومضامينها,في الوقت نفسه.