يأتي السؤال الاعتراضي: لماذا لا تكون الرواية نصاً لحمياً بامتياز؟ ليس لأن الرواية قابلة للانتزاع من سياقها التاريخي والبيئي والاجتماعي، شأن اللحم المجرَّد من كينونته الجسدية أو الجسمية، اللحم المحمول، والمغطى بجلد، هو المختلف أيضاً سماكة أو رقة، مسامات وطبيعة دور، وما يغلف الجلد من كساء صوفي أو وبري أو حرشفي وشَعر، وعار عن أي شيء، اللحم بأدوائه وأجوائه...الخ، إنما لأن الرواية تتنفس في محيطها اللحمي، بجملة وظائف تكون كما تبقى لحمية، صائرة أو محوّلة إليها كلَّ ما يصلنا دلالياً بالوسط الاجتماعي والثقافي...
لحظة النظر الأولى إلى كل من الرواية كصنعة أدبية حديثة، كما يقول تاريخها البشري، واللحم كصنعة طبيعية، أو إلهية كما يقول تاريخه المركَّب والموغل في القدم، يمكن متابعة التداخل المذهل بين الرواية كتكوين لحمي، من خلال مقوّماته: ما يجعل اللحم لحماً وهو يجسد حياةً، ويحيله سرداً يتجاوز فردية كائنه. لحم يتكور، أو يمتد إهليلجياً، أو ينعتم، أو يتنعم أو يتصلب... الخ، ولكل حالة إحالة دلالية. اللحم كبناء روائي مشهود له بالصراع داخلاً وخارجاً، وإلا لما كانت الرواية، لما كان اللحم وهو يتقدم بخلاياه أو مورثاته وطائفة قواه وأهوائه الخاصة.
في تتبُّعنا للعلاقة المعقدة والرائعة بين كل من الرواية واللحم، وكيف يمكن للرواية ذاتها أن تكون نصاً لحمياً، يمكن التوقف عند خاصية اللحم، ما يعبر به اللحم عالمنا الظاهري والمدرَك بحسابات مسجَّلة، كاشفاً عن خفيّه !
نتحدث، نتحرك، نحلم، نقيم علاقات مع عالم لا يتوقف عند حدود المحسوس والمتخيَّل، لأننا في كل ذلك لحميون. اللحم يقيم فاصلاً بين حدنا العدمي النسبي، حيث لم نكن موجودين، وحدنا الكينوني النسبي، إذ نعتبر أنفسنا أحياء وداخل لحمنا الذي يعيش قانونه الخاص في طبيعته اللحمية، لتكون فوضانا ترجمان إزاحة لمفهوم خاطىء عنه.
لا غنى عن اللحم إذاً حتى بالنسبة للنباتيين الذين يعاهدون لحمهم على ألا يقربوا من توأمه الطبيعي، متحولين إلى صنف حياتي مجاوز: النبات، ليخففوا في ذواتهم ضغط اللحم عن اللحم. اللحم في ذاته قلعة محصنة وما نأكله لحمياً يعرّض القلعة للقصف، يستدرجه إلى ساحة المواجهة ليكون هناك عنف اللحم مع اللحم وفيه تباعاً، فاللحميُّ منفتح على الصيرورة بوصفها سريان فعل عنف لا يهدأ، بينما النباتي فطمأنةٌ ما للحم على أنه في وضع آمن أكثر، ولكن ذلك يمثّل خدعة مشتركة هنا لأن اللحم يستسيغ النبات لمهادنة الأخير بينما النبات ممصوص في اللحم، وهو يودعه سرَّه النباتي. اللحم نبات متسلق والنبات قدرة على استهلاك اللحم بذاته، نابض بنباتيته.
في الحالتين نحن في مواجهة شبهة لحمية بحيوات يُنظَر فيها باعتبارها لحوماً علاماتية متعارفة، بلغات صامتة.
لكن اللحم ليس محصوراً في لحميته ومغلفاً بجلده، إنه قائم في الطبيعة، فالجماد ذاته لا ينفصل عن تكوينه.
الدم ذاته لحم مائع، وهو تأويل مستبطَن ومتنوع، واللحم دم متماسك، يطريه الدم أو يهبه إيقاع الحياة من داخله.
يكون العالم في جملته موضوعاً لحمياً، مع فارق الرؤية والتقدير، بين أن نشعر بوجود لحم بلونه وشكله وطعمه، مثلاً، وأن يكون هناك لحم آخر غير مرئي، أو مسكون بالحركة، إلا أنه يقيم صِلات مع لحمنا شئنا أو أبينا.
في الشأن اللحمي، وما يصله بنا وبالعكس اعتقادياً، تيرِز مفرداتنا الأكثر تنسيباً لنا إلى ما هو جمالي أو أخلاقي، هذا التأصيلَ اللحميَّ عندما نتحدث عن خاصية اللحمة والتلاحم والالتحام. اللحم نوطتنا الموسيقية الصامتة.
في الجانب الآخر، يعلمنا لحمنا بما لم نعلم دائماً، وهو ينسكن بالطعوم والروائح، لأن ثمة عقود اتصال تتعدانا، تموقعنا طبيعياً لنكون تابعين للحمنا وليس العكس، إن إرادتنا التي نتباهى بتمايزها لا تعدو أن تكون سلطة لحمية.
ثمة سرد في الحديث عن اللحم وما يشرشه من الداخل بعروقه وأعصابه وأنسجته أو أليافه، بالدم الذي يرعاه من الداخل، بقوى الحياة التي تجعل جسدنا بمفهومه الإنساني حقيقة مسجَّلة زمنياً، بتقلصاته وتوتراته وأوجه الصراع التي تتملكه أو تستبطنه، وما يصبح منها ظاهراً في بانوراما حروبنا ونزاعاتنا وخلافاتنا... الخ.
نحن في الحالة هذه نتحدث عن رواية لا بداية، كما أنه لا نهاية معلومة أو محسومة لها. تكون الرواية نصاً لحمياً، لأن لديها الطاقم الفنّي الكامل الذي يصلها بما هو لحمي، إذ تكون الكتابة تمثيلاً للحم وقناعه الجلد وسارده الدم.
ولعل تواصلنا مع الرواية هو في قلب المعنى المتشكل هنا، إنها نفَث لحمي، افتراش لحمي على الورق، أو في حيّز من البياض هو الهيكل الذي سرعان ما يسترد عافية الاسم المنتظر، فالرواية هي في المكتشَف منها حتى الآن تمثّل ما هو متاح من قدرات اللحم ودلالاته، ما يستشرف بنا المتعالي والكابوسي في تجلياته اللحمية بجلاء.
لحميّتنا هي مبدأنا الهارموني وما يخرجنا عن نطاق النوطة المتداولة في معاينة حقيقتنا بالمقدَّس والمدنس فيها.
على لسان السارد الروائي والخاص ببروست، في «البحث عن الزمن المفقود1- جانب منازل سوان، الترجمة العربية1977»، نقرأ» وكنت أضغط وجنتي برفق على وجنتي الوسادة الجميلتين وكأنهما بامتلائهما وطراوتهما وجنتا طفولتنا. ص 32»، يصعب، وربما يستحيل علينا التمييز بين ما إذا كانت الوسادة هي المحفّز الشعوري للسارد الطفلي هنا، وهي تنبض بلحمها المشع ووسادة معرَّف بها لحمياً، بتينك الوجنتين التي لا تفارقان شيئيتهما، أم أنهما وجنتا الطفل المستعاد واللحميتان الطريتان؟ لحم البراءة الأولى، أضمومة الوسادة الأولى والمتجددة.
إن العالم في امتدادة وارتداده إليه، موزع في نقاط متلاحمة، هي من صنع المتاح اللحمي فينا، مثلما أن المدرَك من العالم مفعول لحمي، كما أنه يتقدم بأسماء مختلفة، داخل لعبة دونية هي في أتم فصولها رواية كبرى لا تنتهي.
وعلى لسان شخصيتها لبنى، تقول ليلى العثمان، في روايتها» خذها لا أريدها- 2009»، ما يقودنا إلى براعة اللحم في التشكيل الروائي» يقضمني الشوق. يلعق دمي. يقرقش عظامي. وتعربد في جسدي الرغبات العاوية فلا أقوى على ترويضه وإخراس ناره.. ص174».
العلاقة أكثر قرباً مما هو لحمي، لا بل يظهر المرسوم روائياً بفضيلة لحمية مباشرة، رغم أن الوصف ينفتح بما هو جسدي وهو في اضطراب مكوّنه على ما هو خارجي، وطبيعي، على لحم متناثر في هيئات جهوية شتى.
ليلى تتحدث عن لحم منمذج في لحم غير مرئي، في كلمات لا تلفت نظرنا بطعمها ولونها ونوعية ملمسها، إلا على مبدأ المعرَّف به لحمياً. إننا نبقى في الرواية بالقدر الذي تتمكن الرواية من إثارتنا وتحفيزنا معها لحمياً.
بينما في مثال ثالث، ومع عزت القمحاوي، في روايته» غرفة ترى النيل-2005»، نقرأ على لسان السارد، ما يضعنا في مقام لحمي آخر، يمتزج مع كائن آخر من الخارج وهو في داخله، ما يمد في مفهوم اللحم، فلا يعود بالصورة التي اعتدناه أو تكيفنا معها، لحمنا النرجسي فقط» لو أن أحداً يقلمني فأنمو من جديد كشجرة! ص143».
لا تنفصل الشجرة عن الذائقة اللحمية للطبيعي، مثلما أن أنها في قدراتها الشجرية تمثل صنف لحم آخر: خاصتها، مقابل اللحم العائد إلى السارد، كونه متماهياً أو متفاعلاً مع ما هو شجري: اللحم المتوخى بقيمة وصفية مغايرة!
أن نكون كائنات لحمية، هو أن نزداد وعياً بهذا الأسطول اللحمي الهائل والذي نكون بضعاً فيه، بينما الكون: مجستنا المتخيلة، فهو أوقيانوسنا والذي لا يفارق تكويننا، إنه مرتبة أخرى، وعلامة أخرى لحمية، وفي وسع المعنيين بما هو كوني، وخاصية الجمال بالدرجة الأولى، أن يخففوا من وطأة لحمهم الخاص من نقطة معينة، هي مسقط رأس أحدهم، ومهاده المؤطر، ليتمكنوا، ولو على هيئة ومضة من رؤية ما لا عين بشرية رأت، ولا أذن بشرية سمعت، وهو مسكون بلحم حي، أكثر احتواء بما هو حياتي وخلاق، وملهم لذوي الرؤى الكونية.
وأن نتحدث عن الرواية التي نزداد افتتاناً بها، فلأنها، كما يبدو، تقرّبنا من الطريق الكوني الذي يبصرنا بهذا المفهوم الذي أثرناه، مفهوم اللحم عموماً، حيث أوصافنا وتقييماتنا للرواية تمثل هذا الدليل الأوكد على هذا اللحم العزيز الذي لم نتهيأ له بعد، لحم لا تمتد إليه يد لتقطيعه أو تلقيمه فماً، لحم لا يحضَّر على المائدة، أو للافتراس، كما هو المألوف تاريخياً، وحتى الآن فعلياً ومجازياً وبالتناوب، وإنما للنظر والمتعة الروحيين بعمق.
الروائيون لحميون، وقلة منهم تدرك أن وراء لحمها لحوماً لها حيواتها يمكن تذوقها جمالياً فقط، أي وهي تبدع!