تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مسارات

ملحق ثقافي
23/3/2010
خيري الذهبي

حين نشر فلوبير روايته الشهيرة «مدام بوفاري» عام 1857 كان ما يزال في السابعة والثلاثين من عمره فإذا ما وضعنا الرواية في سياقها التاريخي،

وأدركنا ثورة الشاب فلوبير على بلزاك سيد الواقعية التي طغت على الرواية في فرنسا، ثم نشرت أشعتها على العالم الغربي كان لنا أن نفهم ما الذي أراده فلوبير....‏

الرواية تعرض لامرأة مليئة بالحيوية والرغبة في الحياة تتزوج من طبيب ريفي يفرض عليها حياة العزلة والتقشف، ولكنها وهي الشبقة إلى كل شيء، الثورة الترف والحب إلى آخر الملذات الدنيوية ما تلبث أن تتخذ عشيقاً فعشيقاً، وتغرق زوجها في الديون إلى آخر الرواية.‏

الرواية لقيت قبولاً قرائياً جيداً وذلك في الزمن الذي انتشرت فيه سياسياً الفوضوية والعدمية وبذور الاشتراكية التي ستتخذ مظهراً سياسياً حاداً عام 1870 في ما سيعرف في التاريخ باسم كومونة باريس والتي ستصبح جزءاً من الذاكرة السياسية للعالم في القرن العشرين تحت اسم الكوميونيزم. المهم هذه الرواية رغم استقبالها النشري الجيد إلا أنها لقيت معارضة شديدة من قبل المحافظين أدت في النهاية إلى استدعاء فلوبير للقضاء ومحاكمته على هذه الرواية التي سميت حينذاك بالـ «لا أخلاقية» وحين سئل فلوبير في ذلك الحين من هي إمَّا بوفاري قال: أنا مدام بوفاري... وهذه بادرة أدبية مبكرة حين يعترف الكاتب أن شخوصه ليست إلا جزءاً من ذاكرته أو شقاً من أناه وشخصيته، وهذا صحيح إلى حد كبير ومهما بالغ الكاتب الحقيقي «وليس الناسخ من أعمال غيره طبعاً» في التنكر وراء شخوص أخرى قد تكون مذكرة أو مؤنثة، أو متدينة وهو من يعلن لا إيمانه، أو ملحدة وهو من يعلن إيمانه الخ. مهما تنكر فهو وأعود للتذكير «إن كان كاتباً حقيقياً» فهو لا يكتب إلا عن شق ولو صغير وخفي في شخصيته.‏

المهم بعد عدة سنوات أي في العام 1869 عاد فلوبير إلى الخط نفسه في كتاباته وفي التأسيس لمدرسته الطبيعية، عاد فنشر روايته المهمة الأخرى والمسماة «التربية العاطفية» وهي الرواية التي يعرض فيها للاضطراب التربوي الذي شاع مع المدرسة الرومانتيكية منذ «آلام فيرتر» للشاعر الألماني الكبير غوتيه والتي كان يمكن عصرها فتسح دمعاً وأسى ورغبة في الانتحار، عاد فلوبير لمجادلة هذه التربية العاطفانية المريضة، وإلى الجدال أيضاً مع الأدب الواقعي وأشهر أعلامه بلزاك والمتحفظة جداً إن على مستوى اللغة، أو على مستوى الدخول إلى غرفة النوم ونشر ما يجري فيها على العكس مما فعل فلوبير، ثم إميل زولا فيما بعد.‏

اميل زولاو الذي ولد بعد فلوبير بتسعة عشر عاماً كان أشد تطرقاً في كتابته من معلمه فلوبير، ولا ننسى أن داروين كان قد نشر كتابه الذي أحدث انفجاراً معرفياً في حينه «أصل الأنواع» فتولدت في المدرسة الطبيعية نزعة قدرية الوراثة والجينات والتطور الطبيعي، وهكذا بدأ إميل زولا نشر سلسلة رواياته العشرين تحت اسم Les Rougon Racquart‏

ومن أشهر روايات هذه السلسلة رواية نانا، وجرمينال، والوحل وهذه السلسلة ستذكرنا بقوة بسلسلة روايات بلزاك الكوميديا الإنسانية، وبإمكاننا قراءتها على أنها معارضة Parody لتلك السلسلة وإن انتمت إلى المدرسة المخالفة أي الواقعية الطبيعية.‏

لم يكن زولا بأهمية فلوبير أدبياً، ولا بأهمية بلزاك بالطبع، ولكنه ركب موجة أخرى هي الموجة السياسية، فضخَّم اسمه الأدبي، وذلك حين نشر سلسلة من المقالات تحت اسم «إني أتهم»، وهي المقالات التي دافع فيها عن ضابط فرنسي من أصول يهودية هو درايفوس، وهذا الضابط كان قد اتهم بالخيانة والعمالة لألمانيا فحوكم، وأدين، وحكم عليه بالسجن في جزيرة الشيطان ولكنَّ مقالات زولا نجحت في تحريك رأي عام طالب بإعادة محاكمة درايفوس وتبرئته وإعادته إلى عمله في فرنسة، وكان هذا قبل وفاة زولا ببضعة أعوام أي في العام 1898. المهم. فلوبير أعلن بجرأة يحسد عليها: أنا مدام بوفاري. والسؤال الآن كم من تلاميذ فلوبير وزولا المعاصرين والذين يكتبون ضمن المدرسة الطبيعية روائياً وإن أسموا ما يكتبون بالحساسية الجديدة. كم منهم يجرؤ على أن يعلن أنه يكتب عن: أنا مدام بوفاري.‏

تعليقات الزوار

دوللى الياس ملوس  |  dolly elias @yahoo.com | 24/03/2010 08:31

انت رائع فى ماتكبهاكتب انت هل من معارض

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية