حتى يقتنع العالم بأكذوبة أرض الميعاد «وأرض بلا شعب تعطى لشعب بلا أرض، وأن يهود العالم قومية واحدة، نعم منذ مؤتمر بازل 1897م، وتحركات هرتزل في العالم، ولاسيما لدى السلطان عبد الحميد الثاني، إلى قيام الكيان الاغتصابي العنصري عام 1948 بقرار دولي، وبقوة أصحاب القوة، والنفوذ على حساب أصحاب الأرض والتاريخ، والنزعة هي المزيد من روح العدوان، والاعتداء، والغطرسة والاستكبار على المجتمع الدولي ولو كان صاحب القرار الجائر في قيام الكيان الإسرائيلي.
وحين نراجع تاريخ الصراع العربي-الصهيوني تستوقفنا محطات متعددة فيه، تظهر لكل ذي بصيرة أن دولة العصابات ليس في خططها السلام، وليس في استراتيجياتها قبول العيش المشترك مع الفلسطينيين الذين استمروا تحت الاحتلال عام النكبة ومن هم كذلك خارج رقعة الكيان العنصري، كما ليس في مشاريعها الإقليمية سوى تفكيك المنطقة، وإضعاف العرب وجعلهم دوماً تحت رحمة القوة الغاشمة.
ومنذ الكونت برنادوت حتى يومنا هذا تقتل الصهيونية كل من يسير بالصراع نحو اتجاهات الحل العادل والشامل، والدائم، أو تفشل مهمته على أقل تقدير، وكلما ساد المجتمع الدولي توجه نحو صورة حلّ قديصل إلى نهاية يرضى عنها العرب.
تبادر دولة العصابات إلى نسفه، وتعطيله، وإبقاء الصراع عند نقطة اللاحل، فاللاحل واللاسلم، واللاعدل واللا منطق منهج صهيوني معروف ويمثله نتنياهو وليبرمان في اللحظة المعاشة للصراع تمثيلاً كاملاً مع أنهما معاً أصبحا مطاردين بعد اغتيال المبحوح المسؤول من حماس، كما مازال مطاردا من غولدستون وأولمرت وليفني.
ومن غريب الحال أن مخرجات هذا التاريخ من الصراع مع كيان العدوان، والسياسات النازية التي يتبعها، وأن مسلسل الخيبة الذي أودى بسمعة الكثيرين من الذين اقتنعوا أن إسرائيل تملك مصداقية الدولة أخلاقياً، وتعاقدياً، وسياسياً، وجروا وراء التعهدات بضمانة أميركا ليتضح لاحقاً أن الحكومات الإسرائيلية لاتتعاقب ضمن منهج الدولة الراعية لالتزاماتها والمتمسكة بتعهداتها، بل على العكس كلما أتت حكومة نقضت ماكانت سابقتها قد تعهدت به وتبدل معها وجه السياسة حتى تعود الأمور إلى مربعها الأول كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر.
هذا هو الوجه التاريخي للسياسة في كيان العنصرية، وكلما توصل الحال- عبر رغبة المجتمع الدولي نحو الحل العادل- تركب إسرائيل موجة الدجل السياسي، والكذب المفضوح حين يدعي حكامها بأنهم مستعدون للتفاوض المباشر، بل مستعدون لأي لقاء ثنائي تصويراً مضللاً بأنهم طلابو سلام، لكن المشكلة عند العرب. ثم يعودون لإسطوانة دون شروط مسبقة، وكأن المجتمع الدولي لايعرف بأنهم مغتصبو أرض وحقوق والغاصب وحده الذي يملك الشروط المسبقة بينما صاحب الحق في الأرض والتاريخ ليس لديه مايمليه طالما أن غاية مايريد هو استرجاع المغتصب منه.
إذاً، إن النهج الإسرائيلي المعلن، والمضمر يشير إلى إرادة استمرار الاحتلال، وتصفية القضية الفلسطينية، ولهذا واصلت سورية فهمها الموضوعي لهذا الواقع الإسرائيلي عبر التمسك بالحقوق والثوابت، وإرادة التفاوض من أرض المبدئية التي لايمكن أن تترك حق استرجاع ما اغتصب بكافة الوسائل المشروعة، وفي رأسها المقاومة.
ولن تتراجع أو تتنازل تحت أي ضغوط، أو إزاء تعهدات لايملك صاحبها أي ضمانة تحقيق لها، والمعروف أن الشارع العربي قد خبر وجرب وخسر الكثير من أسياده الذين تركوا حلول إرادة الحق والاستقلال والسيادة ليدخلوا في لعبة الأمم ويستفيقوا على أن الأمم لاترجع حقاً مغتصباً لمن لايجد الحل في كفاحه من أجله أولاً.
ورغم هذا نعود في اجتماع لجنة مبادرة السلام العربية للحديث عن موافقة عربية لإجراء مفاوضات غير مباشرة فلسطينية- إسرائيلية مع العلم- كما أشار السيد وزير الخارجية في الاجتماع المعني- أنه ليس من حق لجنة المبادرة أو من مهامها إعطاء مثل هذا التفويض لكونه بالأساس قراراً فلسطينياً، والسلطة الفلسطينية هي التي تتحمل مسؤولية قرارها.
وإذا كان التفاوض غير المباشر لمدة شهور أربعة يمثل آلية في طريق الوصول إلى حل يحمي وعود أوباما، ويوفر لأميركا نافذة للظهور فيها بمظهر الجاد بالوصول إلى حل كما تم الإعلان عنه فما معنى مواصلة الاستيطان والتهويد المتسارع للقدس، والأقصى يستباح ويتهدد بخطر التهديم؟ وما معني أن يتم الإعلان عن خطة حزب شاس الصهيوني بضم الحرم الإبراهيمي، ومسجد بلال بن رباح إلى التراث اليهودي؟ هل يملك من يفعل كل هذا، ولايزال يحاصر غزة حصاراً قاتلاً، ويواصل قضم الأراضي العربية، وابتلاعها أي نية للسلام؟!.
لقد كتب جدعون ليفي في صحيفة هاآرتس الصهيونية مؤخراً مايشعر العرب والمجتمع الدولي بضيق الذين أصبحوا يرون حقيقة كيان العدوان بأنه لامستقبل له فقال: «هناك 150 موقع تراث على الإنترنت يسوقون أكذوبة واحدة قديمة هي: شعب بلا أرض أتى أرضاً بلا شعب.. ويتابع الكاتب: إن دولة أزالت 460 قرية للفلسطينيين منذ مئات السنين، وغطتها بغابات للصندوق القومي اليهودي، ولم تترك علامة تدل عليها وأن تقترح خطة تراث حقيقية، وأن تقدم الحقيقة بكاملها لا أن تمحو تراث خمس المواطنين في إسرائيل الذين هم العرب الضاربة جذورهم في الأرض أكثر من اليهود.. واختتم الكاتب بالسؤال: أيستطيع تراث دعائي أن يغير وجه التاريخ؟ فالأجدى لنتنياهو أن ينشغل بالمستقبل، وأن يفكر بالتراث الذي سيخلفه، لكنه سيترك لورثته مقابر أخرى، وحروباً أخرى».
فإذا كان هذا الشعور هو الشعور السائد عند الذين أصبحوا يرون واقع إسرائيل ومؤشرات حاضرها، ومستقبلها، ويرفضون سياسات حكامهم المسدودة الآفاق، فهل سيبقى لنا من عذر نحن العرب لنثق بمصداقية من يرفضه شعبه، فتراث نتنياهو ليس إلا العدوان، وسرقة التراث العربي الحاصل الطبيعي، لكن التاريخ قادر على مكرهم، كما مكروه.