|
أوتار.. إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى آراء وقالت: أنتم في الشرق أعطيتم الحب معناه الحقيقي وخصوصاً ما يسمى عندكم «الحب العذري» أو الحب المستحيل وهو أجمل ألف مرة من حب هدفه أولاً وأخيراً التواصل الجنسي .
واستغربت هذا الكلام من امرأة تعيش في الغرب حيث كل شيء متاح بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء. وكررت القول: جمال الحب في التراث العربي احترام الجنسين كل منهما للآخر.. وقالت: إن كل الشباب الذين درستهم علم النفس والفلسفة خرجوا باقتناع أن الحب الشرقي أجمل ألف مرة مما نسميه هنا حباً، وما هو إلا إعجاب ينتهي إلى غرفة النوم، وبعد ذلك يذهب كل واحد إلى حياته العادية باحثاً عن مغامرة جديدة لا علاقة لها بالحب الأصيل الذي قرأناه في كتب تراثكم العظيم . لم أرد أن أقول للدكتورة هينز إن الوضع في بلادنا أصبح يشبه الوضع في بلادكم، فالشرقي أصبح يقلد الغربي دون وعي حتى الغناء العربي أصبح صراخاً وعزفاً غربياً لا يكاد المرء يفهم شيئاً مما يغنى أمامه . ولم يعد هناك، بين الذين يغنون على مسارحنا من يشبه أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ أو السورية العظيمة مارى جبران التي أنشدت كثيراً الحب الصافي الأصيل بما يشبه الترتيل وعمق الصوت الأصيل خصوصاً دورها: أصل الغرام نظرة فالحب شيء من الصلاة، وشيء من التأمل، وهذا ما افتقدناه في غنائنا الحديث الممسوخ، واندرج الشباب وراء هذا الغناء فأثر في نفسيتهم . أنظر بعضهم يقلد النساء فيضع في أذنه قرطاً، أو يطول شعره ويعقده ضفيرة أسفل عنقه من الخلف، تقليد لهيبي الغرب بكل تفاهتهم، بل أصبحنا أكثر تطرفاً من الغرب نفسه . كانت الدكتورة هينز معجبة إعجاباً شديداً بالحب العذري، بل شجعت تلامذتها على ممارسة مثل هذا الحب الذي يصعد بالروح إلى جمال الحياة الحقيقي، وضربت لهم أمثالاً عن جميل بثينة وعنترة وقيس الملوح وكثير عزة وقيس المجنون... وأشارت لهم إلى شاعر فرنسا الكبير أراغون الذي أراد أن يقلد مجنون ليلى بأن أطلق على نفسه «مجنون الزا» فكتب لها ذلك الشعر الراقي متمثلاً المجنون بكل أشعاره، حتى يقال إن بايرون نفسه تأثر بهذا النوع من الشعر العربي وتكريس جمال المرأة وعنفوانها واحترامها لنفسها، وقبول الشعر الجميل فيها سراً وعلانية ومن أجمل ما قاله اراغون لألزا: «هل قضي علي أني عن ضعيف أخطأت هذا الخطأ هل قضي علي أن أجرحك حين أرفع صوتي أنا ما استطعت أن اكتم من يومي ما نحبس من أشياء فإذا شمسه تفضح الحب الذي ماهو غير تمتمة لكني مع ذلك يبقى فيّ مكان لذات مساء مات في صمته نشيد أسود وكما على العالم فجأة تصمت العاصفة يغدو كل شيء بستاناً يغرقه عطر النعنع الريب يأتيني من ذاتي وألم خفي ريب في حبك لي يأتيني آه توقف الزمان وليتخذ لوناً أبدياً ألماً بهيمياً لأن نوجد جريمة عندما نتوجع إلى هذا الحد صحيح أن الحب العذري العربي جميل وأخاذ، لكنه مليء بالألم والتوجع والأشواق. هاهو قيس بن ذريح يقول : وهو غير قيس المجنون- فقد كانت حبيبته لبنى التي لم يطلها وقال يشكو إلى الله: إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا إلى الله ، بعد الوالدين ، يتيم يتيم جفاه الأقربون فجسمه نحيل وعهد الوالدين، قديم وقال باكياً نفسه: فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة واشٍ أو وعيد أمير فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ولم يذهبوا ماقد أجنّ ضميري إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ومن كربٍ تعتادني، وزفير أما قيس المجنون الذي هوى ليلى إلى حد فقدانه عقله فيقول: والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت ، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، وأنا امتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمداً، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه». وكان عندما يقول ذلك يبكي ويبكي أبوه معه ومن حضروا مجلسه جزعاً لما يرون منه! وهنا قول لطه حسين أن شعراء الحب العذري كان يلذ لهم الشقاء في الحب، وكما يقول قيس: يقولون ليلى عذبتك بحبها ألا حبذا ذاك الحبيب المعذب وإذ يسمع المجنون بأن زملاءه أصابهم شيء من الضعف في حبهم يصرح من أعماق نفسه: تشكى المحبون الصبابة ليتني تحملت ما ألقاه من بينهم وحدي فكانت لنفسي لذة الحب كلها فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي هذه اللذة، لذة العذاب في الحب، لم يعرفها شاعر كما عرفها قيس المجنون، كانت نفسه تشتاق إلى البكاء وتستطيبه كاشتياق الرمال المحرقة إلى قطرة الغيث الباردة، فلا يرى حمامة تنوح على أليفها دون أن يوبخ نفسه لتغافله عن مجاراتها في البكاء: لقد غررت في جنح الليل حمامة على إلفها تبكي وإني لنائم كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً لما سبقتني بالبكاء الحمائم وإذا اشتد شوقه إلى ليلى يمر على آثار المنازل التي كانت تسكنها، فتارة يقبلها وتارة يلصق بطنه بكثبان الرمال وينقلب في حافاتها وتارة يبكي وينشد: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا ورافق خيال ليلى في حله وترحاله حتى إذا قام يصلي يمم وجهه نحوها، أو رآها تسير لحقها حيث تذهب وإن خالف بذلك قواعد الدين والإيمان: أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا آراني إذ صليت يممت نحوها بوجهي وإن كان المصلى ورائيا وما بي إشراك ولكن حبها كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا أحب من الأسماء ماوافق اسمها وأشبهه أو كان منه مدانيا وتحمل قيس المجنون في سبيل حبه الإهانات والعذاب أشكالاً وألواناً حتى غنى الموت تضحية لذلك الحب: رضيت بقتلي في هواها لأنني أرى حبها حتماً وطاعتها فرضاً إذا ذكرت ليلى أهيم بذكرها وكانت منى نفسي وكنت لها أرضى وإن رمت صبراً أو سلواً بغيرها رأيت لكل الناس من بعدها بعض وتوسل في سبيل الوصول إليها والوقوف ببابها، إلى أن وضع في عنقه سلسلة، وقادته عجوز كأنه سائل حقير وهو ينشد : معذبتي لولاك ما كنت سائلاً أدور على الأبواب في الناس عارياً وأعوذ بالله من هذا الجنون ولكنه جنون عذب وجميل وفي سبيل الحب كل شيء يهون ولحديث الحب بقية
|