تأتي مع الدأب والمتابعة وجهد الإتقان ومشقة الإبداع وبعضها الآخر لايزال في مرحلة التمرينات الأولية أو التدريبات البدئية أو في مرحلة القرزمة الشعرية أو النظم الشعري في مستواه المتقبَّل خرجت بالملاحظات المكثفة التالية أصوغها في النقاط الموجزة القادمة دون إيراد الشواهد الشعرية المدللة على ذلك -وهي بين يدي- رغبة في إيجاز هذه المادة الأدبية ذات الطابع الصحفي.
1- لاشك أن أدونيس قد مدَّ ظله على فتيان الشعراء ما يشكل خطراً حقيقياً على تجربتهم الشعرية الغضة الوليدة التي يجب أن (تتمرحل) لا أن تقفز فوراً إلى ترسم خطا اليسار الشعري المتمرد الرافض دفعة واحدة للأشكال الشعرية السلفية. إن أمثلة كثيرة في عدد متوافر من قصائد الشباب تثبت أنهم واقعون وقوعاً مؤلماً ومطلقاً تحت رحى الطاحونة الأدونيسية ما يفقدهم محاولة حضورهم الشخصي ويلغي أي بشرى بتكوين صوتهم الخاص بهم دون تأثير ضاغط من قبل أعمال سلطة شعرية كبرى مهيمنة عليهم, ونحن حباً بهم نريد تميزهم وتفردهم ولو نسبياً ضمن قنوات وتيارات هي وليدة تجاربهم ومعاناتهم.
2- إن للصورة في حركة شعر الحداثة وظيفة جمالية ووظيفة معنوية وهما وظيفتان متواشجتان تتبادلان التأثر والتأثير وكلما كانت الصورة تستمد عناصرها من الواقع وترتبط به وتنهل من معطياته وتجلياته، خدمت فكرة القصيدة وكانت وسيلة إيصال بالنسبة إلى القارئ لاوسيلة تضليل وتشويش وأول ما يؤخذ على بعض قصائد الشعراء الحداثيين الشباب سقوط صورهم في بئر التجريد والتجريب واللامعقولية والعبث. أو ما يقال له في مصطلح النقد العربي (الإغراب والإحالة) بحيث ينعدم تأثير الخيال في المتلقي ويصبح هذا الخيال المضطرب عامل إغضاب وتكريه في القصيدة بدل أن يكون عامل جذب وتحبيب بها ولو أردنا أن نستعرض الأمثلة على جموح مخيلة الشاعر الشاب وميتافيزيقيته وحبه للغموض والإبهام وآفاتهما لأدنَّا معظم صور قصائد الجيل الجديد من الشعراء الشباب المتدربين ولكن يكفي هنا أن أشير إلى بعضها إشارة عابرة ليرى القارئ بعينه سوءة من سوءات شعر الحداثة الشابة لم يستطع التخلص منها بعد بسبب طغيان مثل هذه القصيدة التجريبية أو التخريبية التي تطلع بها علينا المواهب الشعرية الفتية (تكسرت نسائم الطاعون) (صراخ يرشف خمر أصابع النجوم في مضاجع الظلال)، (ترتعش الأشياء بجفن الريح) إلخ..
ماذا ترى... وماذا تفهم وبأي أجواء شعرية تحس؟ لاشيء سوى عجز في الرؤية والرؤيا ورغبة في الخروج على المألوف السائد، لكن دون مقدرة واضحة في القبض على جوهر الفن.
3- إن التكرار في شعر الحداثة ليس ترفاً موسيقياً لاوظيفة له ولا دور إلا (التطريب) الإيقاعي بل هو جزء من طريقة بناء القصيدة ومعمارها الفني فأحياناً يدل التكرار بأنواعه (مقطع، أو جملة، أو كلمة) على تأكيد المعنى أو على التحليل والرصد والمتابعة لحركة الطبيعة ومظاهر انفعالاتها كما في قصيدة للشاعرة (إيمي لووول) بعنوان ( مدينة الأوراق المتساقطة) وأحياناً أخرى ينقل ويصور مسرود الأحاديث اليومية الواقعية كما في قصيدة «إيليوت» (صورة سيدة) وقصيدة (مسافر بلا حقائب) للشاعر عبد الوهاب البياتي وهو من أقدر الشعراء العرب على استخدام تقنية التكرار في القصيدة العربية الحديثة بنجاح لافت للاهتمام، إلا أن بعض شعرائنا الشباب يستخدمون غالباً أداة التكرار هذه أو صيغته بشكل جاف لا حياة فيه ولا هدف له ولا يخدم مضمون القصيدة وشكلها (وهما وحدة متآزرة) إلا باللعب اللفظي لأهداف متعددة قد يكون من جملتها إطالة النص أو غير ذلك.
4- لقد جاء شعر الحداثة ثورة على الشكل الكلاسيكي في برودة نظمه ورتابة نسجه وآلية صياغته وأول ظاهرة أراد هذا الشعر المستحدث أن يتخلص منها هي ظاهرة (الحشو) في بيت القصيدة السلفية وصولاً إلى القافية أو الوزن دون حاجة معنوية تقتضيها هذه الفضلة أو تلك الزيادة ولكن بعض شعرائنا الشباب يكبلون أنفسهم من حيث هم أحرار ويكتبون قصيدة حديثة (قصيدة تقوم على وحدة التفعيلة) فيكثر الحشو في عملهم التماساً للقافية والروي دون ضرورة فنية أو فكرية متناسين أن الحرية الكبرى التي أعطتها لهم حركة الحداثة الشعرية تعفيهم من مثل هذه الآفات التي طغت بشكل لافت للنظر على بعض أعمال الشعراء الشباب والأمثلة على مثل هذه التركيبات الموسيقية الفارغة من أصداء المعاني وأمداء الصور كثيرة في قصائد الشباب الناشئين تصيداً لدواع تزيينية تجميلية خارجية لاغير واندفاعاً في الحصول على إيقاعات وزينة فارغة لا أكثر.
إن القصيدة الحديثة ليست حديثة في الشكل الخارجي لها فقط فما أسهل أن يركب الإنسان موجة «الموديرنزم» أو التقليد السطحي ولكنها قبل كل شيء حداثة في الموقف الشعري والإنساني والرؤية العامة للحياة والوجود والطبيعة والناس من خلال منظار حضاري وفلسفة شمولية ومعاصرة في الأداء وقدرة على التشكيل الفني المتقدم.
إنني كمهتم بالغ الاهتمام بشعر شعراء المواهب الشابة ومتابع لمنتجات أقلامهم فيما يرد إليَّ عبر صندوق بريدي من قصائدهم للنظر الموجز المقتضب فيها وإبداء الرأي العارض أو العابر من قبلي حولها أو فيما أقرؤه من إنتاجهم المنشور على صفحات الصحف أو في الدواوين المطبوعة لهم متوخياً فائدتهم قدر المستطاع ومقدراً جهدهم كائناً ما كان مستواه الفني في كتابة قصائدهم وخاصة أنني لاحظت من خلال متابعتي المستمرة لـ (صفحات الأدباء الشباب) في صحف القطر المركزية والمحلية أن القيمين عليها ينشرون نتاج هذا الجيل الطالع من شعرائنا نشراً فقط على الأغلب دون التعقيب أو التعليق على بعضه إلا نادراً لتبيان مواطن الإجادة أو التقصير في النصوص المنشورة وذلك خدمة لأصحابها أو يعمدون للرد عليه في بريد الصفحة رداً متشدداً قاسياً أحياناً في آرائه يفصح بعضه عن الفوقية أو «الأستذة» أو مجاملاً مرحباً أحياناً أخرى بهدف كسب ودهم أو صداقتهم، على أن كل ما سبق من الأطروحات المعروضة يبقى مشروعاً بل ومتطلباً لرعاية هؤلاء الناشئين وتشجيعهم والأخذ بأيديهم للوصول مع مرور الزمن الإبداعي عليهم وكدَّهم في سبيل تحقيق هدفهم المرتجى وغايتهم المنشودة في أن يصبحوا شعراء ونعمها هواية يستهوونها وغرضاً يسعون إليه وحلماً يحققونه بالتعب والعرق والشقاء ليثروا الحركة الشعرية في سورية مع المستقبل القريب أو البعيد بأصواتهم الشابة المجددة ويشكلوا جيلاً شعرياً قادماً يعول على إنتاجه ويعتمد على محصوله.
m.alskaf@msn.com