وعلى هذا الأساس اقر الجميع خطة الإنقاذ الجماعية من ضخ للأموال لشراء وكفالة الديون المستحقة على الحكومات ومصارفها الكبرى ، بالضبط كما فعل أوباما في معالجات الأزمة الأساسية مع كبريات المصارف الأمريكية . تقتضي خطة الإنقاذ معالجة تداعيات الانهيار المتصاعد في مجمل الأنشطة المالية لدول الأطراف الأوروبية بدءا باليونان المرشحة للإفلاس ، ومرورا باسبانيا والبرتغال المرشحتان للخطر ذاته ، و من يأتي عليه الدور من الدول الأعضاء الأخرى من خلال تشكيل سلة نقدية لسداد القروض، وضامنة لتجديد بعضها بحدود 500 مليار يورو تساهم بها كل دول الاتحاد الأوروبي من داخل منطقة اليورو وخارجها، إضافة الى 250 مليار يورو مساهمة من صندوق النقد الدولي للحيلولة دون انتقال الأزمة الأوروبية للعالم . إن الأزمة الأخيرة تكشف أن دول الاتحاد الأوروبي مازالت تعيش مرحلة الارتدادات الأولية لأزمة وول ستريت والتي تسببت بالتالي في بعثرة الأصول المالية وقيم سنداتها ، من خلال عملية التوظيف المتراكم والمتلاعب بحجم الدين والفائدة وعلاقتها بالأسهم والسندات والأوراق المالية وقيمها الفعلية المتداولة في أكثر من دورة مصرفية بغطاء من الاندماج المتيسر بين ما هو تجاري واستثماري، والذي تبين أنه محرم نظريا وأخلاقيا ، لخرقه قواعد اللعبة الاستعمالية والتبادلية في عملية تدوير الرأسمال المالي ، ولو كان الأمر ليس كذلك لأمكن تجاوز الأزمة فعليا من خلال عزل الأسهم والسندات المشكوك بتحصيلها ، وتعويض المصارف الوسيطة بضخ أموال تغطي الإطار الوسطي للقيم الفعلية وتراكماتها المتضررة ، وهذا ما حاول فعله أوباما عمليا عندما ضخ مئات المليارات من أموال دافعي الضرائب ، لتصلح المصارف حالها ، لكن رغم ذلك صرح أوباما بأن لا إصلاح للاقتصاد الأمريكي إلا بالرجوع لنظام الانتاج البضاعي وفصل النشاط التجاري عن النشاط الاستثماري مصرفيا وائتمانيا ، وضرورة خضوع النشاط المالي للمصارف والبورصات للمراقبة المنتظمة من قبل الدولة ، لان الاقتصاد المالي الخدمي لا يقيم مجتمعا مستقرا ، محذرا من أن هناك أزمة عاصفة قادمة اذا بقي الحال على ماهو عليه من عجز مالي فيدرالي يقدر بحوالي 10 ترليونات دولار ، ودين فيدرالي مرتفع بمعدلات سنوية متصاعدة ، ستصل إلى حدود 90 بالمئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020 . وبالرغم من أن وزير الخزانة الامريكي تيموثي جايتنر قال في مقابلة مع تلفزيون بلومبيرج انه واثق من ان أوروبا ستحل أزمة الديون التي تواجهها وان بامكان الاقتصاد الأمريكي الصمود في مواجهة أي تبعات إلا أن الواقع يشير إلى أن تبعات الأزمة ستستمر لسنوات قادمة . فالأزمة اليونانية أدت إلى إدامة الأزمة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي ذاته، وذلك من خلال الإدارة السيئة لحكومات اليونان مع شؤونها المالية، والطريقة السيئة التي تعاملت بها ألمانيا مع اليونان ورفض ألمانيا مساعدة اليونان على التغلب على مصاعبها على الرغم من أن البنوك الألمانية على وجه التحديد، كانت من أكبر المقرضين لليونان، وفي المقدمة منها بنك «لاندسبانكن» الحكومي والمتورط حتى الأعماق في أزمة الرهن العقاري الأميركي. وقد اتضح فيما بعد أن بعض هذه البنوك كان بحاجة لإعادة تمويل، وبعضها الآخر قد جرى الاستحواذ عليه من قبل بنوك أكبر، وهو ما يتناقض مع الأوهام السائدة على نطاق واسع عن سلامة القطاع الألماني المالي ومتانته المفترضة، ويكشف في الآن ذاته عن الصعاب الحقيقية التي يواجهها«دويتشه بنك» وبعض أفرع بنك» لاندسبانكن» التابعة لحكومات الولايات الألمانية. مع كل ذلك، تمكنت اليونان، في التاسع والعشرين من آذار الماضي ، من الحصول على قروض جديدة بفائدة تزيد على 6 بالمئة، الأمر الذي سيزيد من فقر وشقاء اليونانين بسبب أخطاء إدارات المصارف والمؤسسات المالية العالمية التي أوقعتهم في فخ المديونية ، ووفقا لما صرح به وزير ماليتها جورج بابا كونستانتينو، عندما أعلن أن هناك سندات خزينة قيمتها 12 مليار دولار مستحقة الدفع في 19 من شهر أيار 2010م ، وليس للخزينة العامة المبلغ لسدادها.
وليس هذا فحسب ؛فإن اليونان ترزح تحت ديون تصل إلى 300 مليار يورو وتحتاج إلى اقتراض 54 مليار يورو هذا العام فقط. إن أزمة المديونية التي حلت باليونان ليست الوحيدة ولا الأخيرة في دول الإتحاد الأوروبي السبع والعشرين ، ولا الوحيدة في دول اليورو الست عشرة التي تعاني من مشكلة المديونية،وليست الوحيدة التي تنتظر مساعدة بقية دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي ؛فالبرتغال وإسبانيا وأيرلندا على قائمة الانتظار،مما يُظهر عمق الأزمة التي يمر بها الاتحاد الأوروبي منذ قيامه في عام 1957م .
ففي ألمانيا ذات أقوى اقتصاد في أوروبا وثالث أقوى قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة واليابان ،بلغ معدل البطالة فيها حدود 7.4 % في العام 2009، ويتوقع المعهد القومي للإحصاءات أن يرتفع معدل التضخم قليلا من 1.4 في المئة إلى 1.5 في المئة خلال الستة أشهر الأولى من 2010. وفي فرنسا زادت نسبة البطالة على متوسط معدلها في دول الاتحاد وهو 10% لتبلغ 11% هذا العام، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل 2.7مليون عامل.
مما سبق بيانه يتبين أن الأزمة المالية لم تحُلّ في اليونان فقط ؛بل حلَّت في الاتحاد الأوروبي والذي تأسس في عام 1957م بعد التوقيع على معاهدة روما التي مهدت « لاتحاد تربطه عرى تزداد وثاقة ». وكانت قيمة «اليورو»، قد ارتفعت بعد وقت قصير من طرحه للتداول في صورة عملات ورقية ومعدنية، إلى مستوى يفوق قيمة الدولار الأميركي بمقدار النصف على الأقل، وذلك قبل أن يعود مجدداً للانخفاض نحو نقطة التساوي مع الدولار في حقيقة تعكس بداية عصر أفول اليورو. حيث من المتوقع أن يستمر انخفاض اليورو في الأسابيع المقبلة لكن في الوقت نفسه العملة الاوروبية ما زالت بعيدة عن أدنى مستوى تاريخي لها . إن هذا الانخفاض ناجم عن القلق حول صحة الاقتصاد والميزانية في منطقة اليورو حتى إن اليورو يمكن أن تتعادل قيمته مع الدولار الأمر الذي لم يشهده منذ الخامس من كانون الأول 2002 . إن منشأ الأزمة الاقتصادية اليونانية والأوروبية والأمريكية بحد ذاتها قائمة على مساوىء قاتلة في جوهر النظام الرأسمالي وإن حل هذه الأزمة يستند في جوهره على هذه الأسس والتي بحد ذاتها سبب تدهور هذا النظام :
مبدأ المضاربات المالية :
« لقد حان الوقت لجعل الرأسمالية أخلاقية بتوجيهها إلى وظيفتها الصحيحة، و هي خدمة قوى التنمية الاقتصادية و قوى الإنتاج، و الابتعاد تماما عن القوى المضاربة» هذا ماقاله الرئيس الفرنسي ساركوزي مؤخراً في تعقيبه على نتائج المضاربات على الاقتصاد العالمي .
لقد جمعت المضاربات في الأسواق المالية كل مساوئ النظام الاقتصادي الرأسمالي: الفوائد الربوية, العملات الإلزامية غير المغطاة, البيع و الشراء بغير تقابض, اعتماد أساليب الغش والاحتيال و التمويه و التآمر في رفع الأسعار و تخفيضها . نظام الفائدة المركبة المصرفية :
وأما بالنسبة لنظام الفائدة المصرفي فإن القروض الربوية تشكل مشكلة اقتصادية كبرى مع فكرة مبدأ الفائدة المركبة التي تجعل الفوائد المترتبة في أحيان كثيرة أكبر من أصل الدين ما يسبب أزمة تسديد الدين، وتباطؤ عجلة الاقتصاد لعدم قدرة الجهة المستدينة سواء كانت شركة أم دولة من سداد الدين.
نظام النقد الورقي :
لقد تم إقصاء الذهب عن كونه الغطاء النقدي، وإدخال الدولار شريكا له في اتفاقية بريتون وودز مع نهاية الحرب الثانية، ثم بديلا له في أوائل السبعينات، قد جعل الدولار متحكما في الاقتصاد العالمي، بحيث تكون أي هزة اقتصادية في أمريكا مشكِّلةً ضربة قاسية لاقتصاد الدول الأخرى، وذلك لأن مخزونها النقدي، معظمه إن لم يكن كله، مغطى بالدولار الورقي الذي لا يساوي في ذاته أكثر من الورقة والكتابة عليها، و حتى بعد أن دخل اليورو ، وأصبحت الدول تحتفظ في مخزونها النقدي نقودا غير الدولار، إلا أن الدولار بقي يشكل النسبة الأكبر في مخزون الدول بشكل عام.
عدم العدالة في توزع الملكية
في الدول الرأسمالية :
لقد أيقن الساسة والاقتصاديون في العالم أن سبب ما يمرون به من كارثة اقتصادية ؛ إنما هو المبدأ الرأسمالي، الذي يحرص على مصالح الرأسماليين فيه، فيملأ جيوبهم على حساب باقي الناس، وقسم العالم إلى فئتين: فئة لا تصل إلى 20% من الناس تملك أكثر من 80% من مقدرات العالم وثرواته، والأخرى 80% من الناس، ولا تكاد تملك 20% من الثروة .
المشكلة عند الساسة والاقتصاديين أن الحلول لهذه المشاكل الاقتصادية هي تعميق للأزمة نفسها حيث يتم ضخ الأموال والسيولة من جيوب دافعي الضرائب إلى البنوك والشركات المساهمة المتعثرة والتي تمثل مصالح الرأسماليين الكبار أي أن إصلاح المشكلة تقوم على حساب الفقراء والطبقة الوسطى .
لقد فشلت معالجات الدول الرأسمالية للأزمة الاقتصادية ، لأنها من جنس المبدأ الذي أنتج هذه الأزمة، فالمبدأ الفاسد في أساسه سينتج عنه الفساد حتماً، وسيولد الشقاء لمن يطبق هذا المبدأ
اقتصادي واستشاري مالي