التي حلّت على البلاد منذ سنتين تقريباً، ألصقت هذه الكلمة بالرجال أيضاً، مع فارق بسيط أنّ العنوسة عند الرجال اختيارية كونه صاحب القرار فإما الارتباط وإما العزوف عن الزواج.. إذاً، لم يعد لقب العنوسة يهدّد الفتيات فحسب، بل بات شبح الوحدة، ومضيّ قطار العمر دون الارتباط، شبحاً يرافق الرجال تماماً كما يرافقهنّ. وكما أنّ لكلِّ ظواهر الحياة أسباباً، كذلك لعنوسة الرجال أسبابها، وفي مقدّمتها الأزمة السياسية وتبعاتها الاقتصادية..
لا ثقة بالجنس الآخر
يقضي أحمد سعيد (40 عاماً، محاسب) معظم وقته أمام الحاسب في العمل، أو المنزل، حيث يجري مناقشات ودردشة عبر الإنترنت، ويكوّن علاقات حبّ إلكترونية من كلّ حدب وصوب، مع الشقراء والسمراء، الصغيرة والكبيرة، وهذا ـ في رأيه ـ يغنيه عن الزواج، الذي يعتبره وجع رأس، إلى جانب المطالبة بالحقوق والواجبات ومصاريف الأولاد، فيرى أحمد أنّ السعادة الزوجية لا تتوافق مع كثرة المسؤوليات، ولعلّه السبب الرئيس في عزوفي عن الزواج على حد قوله.. أما سامي.ك (51 عاماً)، فعدم الارتباط بالنسبة إليه هو “معاناة”؛ إذ دخل عقده الخامس من العمر، ولم يجد حتى اللحظة امرأة يكمل معها حياته، التي جاوز فيها منتصف العمر وحيداً، يقول: أغلب زملائي في العمل متزوجون، ولديهم أولاد، معتبراً أنّ رغبته في مشاركة فتاة ليس لها تجارب مع أيّ شخص سبب وراء بقائه عازباً، نظراً إلى تعاملاته الكثيرة مع زميلاته أثناء فترة الدراسة والعمل، ويضيف سامي: لم أجد حتى اللحظة امرأة أثق فيها وأهبها حياتي، لقد فسخت خطبتي مرّتين بسبب شكوكي وغيرتي، والآن أجد نفسي وحيداً تائهاً، مداوماً في عيادة طبيب نفسيّ علّه يساعدني في إيجاد ثقة فقدتها بجنس حواء..
الظروف منعتني
يقول علي.ك: أبحث عن العائلة والاستقرار، لكنني لا أستطيع إيجادهما، في ظلّ الانفتاح الذي يشهده المجتمع، بعد ثورة التواصل الاجتماعي، ويتساءل علي: أين يمكن لي أن أجد تلك الفتاة التي لم يسبق لها أن أقامت علاقات مع رجال قبلي، حتى على الفيسبوك، فتجاربي السابقة ولّدت عندي عدم ثقة بأيّ فتاة، وإن بقيت هواجسي على حالها، فلن أتزوّج في حياتي. أما طلال (35 عاماً)، فكان اعتراضه على المسمّى بقوله: “رجل عانس أفضل من زوج عابس”، وخاصة بعد مجازفة معظمهم بدخول القفص الذهبي، ليصبحوا عصافير محبوسة، يمضون حياتهم بحنين إلى الحرية التي يجدونها، ومع هذا لا أنكر أهمية الزواج، فهو قدر محتوم، لكنّ العزوبية والحرية أجمل. أما رامي محمد (30 عاماً)، فيرى في الزواج حالة من الاستقرار والسعادة، لكنه، في ظلّ الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد والأوضاع الاقتصادية الصعبة، لا يقدر أن يتورّط بخطوة كالزواج، فمصاريف خطوة كهذه مكلفة جداً، حيث يكون الرجل مسؤولاً عن طرفين، ومستقبلاً أكثر من طرفين، هذا إن لم نتطرّق إلى موضوع غلاء الذهب حالياً، وأجور البيوت، إضافة إلى التخوّف من عدم استقرار البلاد، ففي حال تمّ الزواج يبقى لدينا عائق إنجاب أطفال في هذه الظروف، فنحن لا نضمن حياة مستقرة ومستقبلاً جيداً. ويمكن القول :إنّ الالتزامات التي يفرضها أهل الفتاة على الرجل في مجتمعنا أدَّت إلى تقليل فرص الزواج لعدم قدرة العريس على القيام بكلِّ هذه الأعباء، وهذه الظاهرة يترتب عليها ما يزيد في تعميق وتجذير ظاهرتي العنوسة والطلاق..
الاختصاصيون: للعنوسة أسبابها
تتمثّل أسباب العنوسة لدى الرجال ـ حسب بعض الاختصاصيين الاجتماعيين، في عدم توافر الدخل المادي الكافي لتأمين مستلزمات الزواج، إضافة إلى وقوع بعض الرجال الناجحين في هوى أعمالهم التي تصرفهم عن التفكير في بناء عائلة، إلى جانب عدم الثقة بالنساء بعد أوّل صدمة عاطفية يقعون فيها، كما أصبح هناك سبب رئيسيّ حالياً، بعد حلول الأزمة على البلاد وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، أسهم في عدم قدرة الكثير من الرجال على تحمّل المسؤوليات والظروف الراهنة. كما يرى الاختصاصيون أنّ آثار الوضع الراهن لا بدّ أن تبقى في ذاكرة الناس مستقبلاً. وأنّ معظم أفراد المجتمع، خلال هذه الأزمة، خاصةً في المناطق الساخنة، قد سيطر الحزن والقلق على حياتهم، وبات ذلك واضحاً وجليّاً عليهم، ما جعل الزواج، بشكل غير مباشر، خارج أولويات أفراد المجتمع، خاصة في المناطق المتوترة. أمّا في المناطق الأخرى التي شهدت أحداثاً أقلّ من بعض المناطق، فرجالها، في حقيقة الأمر، متأثرون بما يجري حولهم، أو ما تنقله وسائل الإعلام، أو وسائل الاتصال الشخصي، الأمر الذي يجعلهم، أيضاً، يرفضون فكرة الزواج إلى حين انتهاء الأزمة. وفي سياق هذا الموضوع، يؤكد الاختصاصي الاجتماعي، الدكتور جورج قسيس، تخوّفه من أن سنّ الزواج لدى الرجال يمكن أن يتأخر بشكل دائم، فحسب بعض الدراسات التي أجريت في سورية، أصبح سنّ الزواج من 30 إلى 40 عاماً، ويمكن أن ترفع تأثيرات الأزمة السلبية سنّ الزواج إلى أكثر ممّا هو عليه الآن”.
يرث ثرواته!!
“أحمد. م (رجل أعمال يمتلك ثروة لا بأس فيها) يؤكد أن الظروف الاقتصادية الصعبة، التي تمرّ بها البلاد نتيجة الأزمة، لا تؤثر في فكرة الزواج عنده، لكنه ـ على حد زعمه ـ لم يعثر على من يخفق لها قلبه، حيث أدّى انشغاله في تأمين مستقبله وعمله المتواصل إلى مضيّ قطار الزواج ليجد نفسه يرث ثرواته. أمّا سامر العلي (35 عاماً) فوجهة نظره مختلفة، حيث يرى أنّه لا داعي للزواج والالتزام بزوجة وأولاد، وهو قادر أن يقضي كلّ يوم قصّةَ حبّ مع أيّ فتاة يريدها، ويلبّي جميع رغباته بعيداً عن التقيد والالتزام.
خسارتها أفضل من الزواج
كثرٌ هم الرجال الذين يتخوّفون من فكرة الارتباط والزواج، ويعتقدون أنّها مغامرةً غير محسوبةً قد تذهب بهم إلى ويلات الجحيم، هذا ما أكّده سليم محمد (27 عاماً)، حيث يقول: ارتبطت مع فتاة بقصة حب جميلة وهادئة، ولم تبدأ المشكلات إلا بعد بدء حبيبتي طلب الزواج والإسراع في التعرف إلى أهلها، فهنا بدأت أشعر بأنّني لست قادراً على هذه المسؤولية وتبعياتها، وبدأت أتهرب من مطلبها، بعدم قدرتي المادية، والتذرّع بالأوضاع الراهنة، وخوفي من المستقبل، وتدهور الأوضاع الاقتصادية أكثر ممّا هي عليه، والتذرّع بأن وظيفتي غير ثابتة لأنّني أعمل في قطاع خاص، وأنني لا أريد خسارتها أبداً، ولا أرضى بزوجة غيرها، لكن هذا الكلام لم ينجح معها، وقررت الانفصال عني.. لا أنكر حزني على خسارتها، لكن هذا أفضل من قرار الزواج حالياً. شعور الوحدة الذي يصيب العانس، رجلاً أو امرأة، هذا الشعور الذي ربما يمكن تعويضه ولو نسبياً بالكثير من العلاقات الاجتماعية والصداقات، لا ينفي واقعُ أنّه لا شريك يقف مع الآخر في لحظات الفرح والحزن، وأن الحياة توقفت ولا جديد، لا سيما في مجتمعنا الذي يعرف بتدقيقه في هذه التفاصيل وإلا لما كنّا وصلنا إلى ابتكار مصطلح “عنوسة” كنتيجة منطقية لدرجة مبالغتنا في التدخل في حياة الآخرين وخياراتهم بالارتباط أو البقاء وحيدين..