ثم تحاول تجميل صورتها وتعترف بين لحظة وأخرى بأن بعض جنودها ارتكبوا بعض الجرائم لكنها تعود لتطوي صفحة محاكمتهم وكأن الأمر يقتصر على التسويق الإعلامي بأن قضاءها عادل ونزيه وإعلامها شفاف وإدارتها ديمقراطية .
وليس هذا فحسب بل إن معظم مسؤوليها تراهم يعترفون على صفحات الجرائد الأمريكية وشاشات القنوات الفضائية بأخطاء أمريكا هنا وهناك وأنهم لم يكونوا على دراية تامة بتقارير الاستخبارات وأنه آن الأوان لقول الحقائق كما فعل كولن باول بعد تلفيق قصة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل في العراق لغزوه ثم ظهر بعد عدة سنوات ليعترف بهذه الكذبة الكبيرة التي أدت إلى غزو هذا البلد وتدمير مؤسساته واقتصاده .
المفارقة الصارخة في كل ما يجري من اعترافات بالأخطاء والحقائق ونشر الغسيل الوسخ للولايات المتحدة أن الإعلام الأمريكي والقضاء الأمريكي يقومان بين الحين والآخر بفضح بعض الجرائم التي يرتكبها الجنود الأمريكيون في مكان ما من هذا العالم ثم سرعان ما تذهب هذه القضايا إلى أدراج النسيان .
ومثل هذه الحقائق أصبحت حقيقة تؤكدها التقارير اليومية المسربة إلى الإعلام الأمريكي وكلنا يذكر فضيحة جنود من مشاة البحرية ( المارينز ) في أفغانستان وظهور فيديو يؤكد قيامهم بالتبول على أجساد قتلى أفغان وتحويلهم إلى المحاكم الأمريكية التي لم تتخذ بحقهم إلا بعض العقوبات الإدارية التي تصدر عادة بحق جنود قصروا في أعمالهم اليومية فقط ، وكلنا يذكر أيضا كيف ذهبت محاكمات الجنود الذين قتلوا عائلات عراقية بأكملها في مدينة ( حديثة ) أدراج الرياح وكانت طريقة محاكمتهم صدمة للعراقيين بسبب ضياع حقوق ذوي الضحايا واكتفاء القضاء الأمريكي بتخفيض الرتبة العسكرية لأحد الجنود الذين ارتكبوا المجزرة لا بل إن إحدى المحاكم لم تنفذ حكما بالسجن لمدة ثلاثين يوما فقط لأحد هؤلاء الجنود .
فإذا كانت جريمة بمستوى مجزرة حديثة التي راح ضحيتها أكثر من 35 مدنيا عراقيا جميعهم من النساء والشيوخ والأطفال تذهب سدى وتصدر فيها أحكام مثل تخفيض الرتبة العسكرية أو السجن لثلاثين يوما ولا تنفذ أيضا فكيف سيتم الوثوق بهكذا قضاء يصنف جرائم الإبادة ضد الإنسانية بخانة جنح إدارية أو قضايا إهمال .
ولعل المفارقة الأكثر من صارخة أن تسرب أجهزة الإعلام الأمريكي معلومات موثقة عن قتل أميركا لأكثر من نصف مليون عراقي خلال الغزو وبسبب نتائجه ولا يكون هناك أي رد فعل من قبل القضاء الأميركي أو حتى من قبل المؤسسات الأهلية الأميركية والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وكأن القضية مشكلة صغيرة عابرة ولا تستحق الاهتمام .
فقد أقرت دراسة نشرت مؤخرا في الولايات المتحدة أن نحو نصف مليون مدني عراقي قتلوا خلال الاحتلال الأمريكي بين عامي 2003 و 2011 وذلك مع الأخذ بالاعتبار القتلى الذين سقطوا مباشرة خلال الغزو وكذلك النتائج التي نجمت عنه .
ووفقا للدراسة فان 35 بالمئة من الحالات نسب الأشخاص الذين سئلوا رأيهم موت ذويهم إلى قوات التحالف الذي قادته الولايات المتحدة فيما نسب 32 بالمئة موت ذويهم إلى مجموعات مسلحة .
ويجمع المراقبون في أميركا وخارجها أن قرار الولايات المتحدة المشؤوم بغزو العراق عام 2003 بحجج كاذبة متخطية بصلف كل الشرائع الدولية والإنسانية هو الذي أعطى الضوء الأخضر لمرحلة عارمة بالفوضى والموت والتشتت والتمزيق في هذا البلد وخلف مآسي كشفتها الدوائر الأميركية أو المقربة منها قبل أن تكشفها وثائق سربت لعشرات المواقع الالكترونية ومنها موقع ويكيليكس الذي كشف وثائق سرية عن أن الجيش الأمريكي قتل مئات العراقيين على الحواجز ونقاط التفتيش و أن عدد القتلى من المدنيين العراقيين أعلى بكثير من الرقم المعلن .
وأخيرا يبقى السؤال الأهم هل يكفي للإعلام الأميركي أن يعترف بأخطاء أميركا وبقتلها لمئات الألوف من البشر ؟ وهل يكفي للقضاء الأميركي أن يأخذ علما بهذه الجرائم المروعة ؟!.