فنكون أمام نضوج سردي له دهشة الطّفل وإرادة النّاضج وحكمة الشّيخ, هذا ما تفوز به بعد قراءة رواية « الاختفاء العجيب لرجل مُدهش» للروائي أسامة علّام الصادرة عن دار «دَوّنْ».
الحلْم هو تحقيق رغبة مكبوتة:
في حدثٍ يتأخر ليظهر في الرّواية, يُشاهد أهل مدينة مونتريال الكندية ظاهرة غريبة مؤداها, هجرة الطيور في غير مواعيدها وكأنّ تغيراً مناخياً قد عصف بأجواء المدينة لم تلحظه إلّا الطيور وأستطيع أنْ أعتبر هذا الحدث هو التمهيد الذي سيفكّ أسرار الرواية والتي تبتدئ بسرد العجوز «نينا جانيون» المجنونة بجمع الأحذية ورغبتها الشديدة باقتناء الحذاء الأخضر المنتعل من قبل « فرانسوا ليكو» مزين الموتى كعمل له ويمارس هوايته كممثل في مهرجان « من أجل الضحك فقط» كأرنب يحكّ جسده, نتيجة لسرقته خضروات جارته.
من « نينا جانيون» تبدأ الرواية و تستلم دفّة السّرد الشخصيات باستبعادٍ كاملٍ لأيّ أثرٍ للروائي, يتبعها فرانسوا ومن ثم العرافة «نتالي سان بير» وصديقتا « نينا الضاحكة», إيزابيلا التي تضع الحفاضة وشانتال رائحة الخنزيرة, اللتان تتفق معهما نينا على اختطاف فرانسوا من قلب مهرجان « من أجل الضحك فقط» ليتقاطع هذا السّرد بشخصيات فاعلة لا تقلّ أهمية مثل الرّجل من الغابون الذي هجر بلاده بحثاً عن نينا وجاك الحلم الذي انتحر وكان سبباً بهجرة الطيور بعدما ذاقت لحمه المرّ, لكن حامل السّرد الرئيسي كان فرانسوا مزين الموتى الذي نال شهرة كبيرة يجعل الموتى في ذاكرة أحبائهم الأحياء, يغادرونهم وهم في أبهى حلّة.
الحلم هو تحقيق رغبة مكبوتة هكذا صرّح رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد, إذ اعتبر الحلم المُهَرِب الذي يتملص من جمارك الشعور ومن خلال ذلك تتكشف لنا, النعوت التي لحقت بالعجائز الثلاث وخاصة عندما يقفن أمام مرآة الحقيقة في البيت الجبلي الذي يعود إلى جد شانتال, فتتضح نعوتهن بأنّها قضاء عقوبة لموت حدث في ماضيهن البعيد دون قصد إذ كنّ صغيرات.
هل يكفي تصريح فرويد, أقول: إنّه يخدمنا بعض الوقت, لكن لابدّ من التعويل على مفهوم الرغبة المحاكية الذي ابتدعه «رينيه جيرار», مفسراً به العنف والذي يحدث بين راغب ومنافس له عادة ما يكون يقول: اقتدي بي, لا تقتدي بي للراغب وصراعهما هو الحدّ الثالث في تشكيل هذا المفهوم وهو الموضوع المرغوب فيه, إذ كثيراً ما يكون امتناع الموضوع المرغوب به على الرّاغب موضوع سعادة كبيرة للمنافس والعكس صحيح ومنها هذا المفهوم, تظهر رغبة « نينا الضاحكة» في تجربة الحذاء الذي صنعه لها أبوها والذي أدى لموته كذلك احتفاظ إيزابيلا بالحفاضة كحلول دائم بدل أخيها التي كانت سبباً بموته وبنفس الوقت نفهم شانتال رائحة الخنزيرة التي كانت أيضاً سبباً في موت زوجها.
فرانسوا ليكو الخارج من الموت عدّة مرات بشكل يدعو للعجب من طفولته حتى تقدم به العمر وخاصة على يد نتالي سان بير التي كادت تموت وهي تتبع خطوات الساحرات, فتنجو على يد زوجين أصمين أنجبا «أماندا» الفتاة التي سيزينها فرانسوا بعد موتها شابة في بلاد بعيدة عن بلادها, لتختفي ويجد بدلاً منها حذاء أخضر رغبة به نينا الضاحكة.
فرانسوا هو البرزخ الذي سيقود شخصيات الرواية لاعترافاتهم ومن ثم ليقتل على أيدهم جميعاً, مخلفاً بموته سعادة تخلّص فيها الجميع من أحلامه المكبوتة خوفاً من حقيقة وخلاص.
مونتريال
مدينة كندية, مدينة هجرة حتى لأصحاب البلد والذين أتوا من بلاد بعيدة, مدينة تريد أن تصنع أسطورتها, بمزج هذا الخليط البشري من الهندي الأحمر إلى المهاجر الأوروبي ومن بعده الذين قدموا من بلاد ضنّت عليهم بأحلامهم, فاغتربوا بحثاً عن أحلامهم, لكن مونتريال كأيّ مدينة لها مكبوتاتها وعنفها الذي يسقط ضحيته» جاك الحلم» الممثل الشرعي لكاتب حطمته الورقة الخضراء للإقامة والحلم بالجنسية الكندية بالزواج من امرأة لا تراه إلا وطرا,ً تسدد حسابه فيما بعد بالجنسية.
مونتريال مدينة ينقصها الحلم, الذي إن دققت تجده يشارك القطط حاويات الزبالة ويموت متجمداً في شتائها القاسي وعليه يصبح فرانسوا ليكو القديس الذي يغفر لها ويزين موتاها, ليترك ذكرى جميلة في قلوب الأحياء وغذاء للموتى عن طريق المحبّة التي يكنّها الأحياء لهم؛ إنّه يعيد وصل الجسور بين الأحياء والموتى المغيَبين عن الذكريات ويعيد رتق ثياب الأحلام لأجساد أصحابها.
البنية الفنية
يعتمد الروائي أسامة علّام على السّرد المتعدد الأصوات وجاء الأمر هكذا كمقتضى شكلي يتوافق مع المضمون الذي تطرحه الرّواية في سردها, فالتماهي بين المضمون القائم على تحقق ذوات الشخصيات واكتمال نموها يلائمه تعدد الأصوات وغياب صوت الراوي الوحيد العليم؛ الأمر الثاني يتمثل بالسّرد المابعد قصصي, إذ تنبه الشخصيات القارئ بأنّه متضمن بخطابها ومشارك مستمع, فلا تتركه متلقياً سلبياً, يُقص عليه, فهو يقع ضمن دائرة اهتمام الشخصية والأولى أن يضعها ضمن اهتمامه ومن جديد تثبت البنية الفنيّة للرواية الهدف من تعاضد الشّكل والمضمون, فالحبّ والحلم لا يكونان دون علاقة رحمية بين ولد ووالدة.
اعتمد أسامة على ثيمة الحلم وما يقود له من فنتازيات ومدعى ذلك أنّ الطفولة البعيدة للشخصيات هي المحرك الأساسي لحاضرهم وبذلك يكون قد ضمن التلاحم بين الشكل والمضمون على كافة مستويات الطرح السّردي في الرّواية محققاً تناسقا كبيراً.
الاختفاء العجيب لرجل مدهش
ليستْ رواية لما قبل النوم بل رواية لماقبل اليقظة, رواية تتركك لتعيد حساباتك بعد أن تتشرب خلاياك شخصيات الرّواية باحثاً لك عن شبيه فيها, ألستَ مخاطباً من قبلها من أوّل السّرد, رواية تستحق القراءة أكثر من مرّة. إنّها رواية الحكاية. - صدرت عن دار دوّن/ مصر لعام 2013
Bassemsso91@gmail.com