وربط ذلك بمسألة وحدة الشهود ووحدة الوجود ومفهوم الحب الإلهي، والوجد والفناء.. والبحث من جديد في تاريخ ظاهرة التصوف في الثقافة والأدب من دون أن يهمل إشاراتها عند أمم عدة من الهنود والفرس واليونان، يربط في ذلك بينها وبين ما وصل إلينا من بلاد الرافدين.. من البابليين والسومريين وغيرهم.. وكان العقل وسيلة أهل التصوف إلى معرفة الوجود الحقيقي المطلق المعبر عن وحدة الوجود قبل أي وحدة أخرى.. وهو النافذة إلى آراء بعض الأمم القديمة، مؤكداً أهمية ما ورد في ملحمة جلجامش من مفهوم الإقلاع عن الشرق والبحث عن الخلود في صميم وحدة الوجود بعد أن يتقن بموت صديقه «انكيدو».. لقد أيقن بأنه لا سبيل إلى الخلود إلا بما يدل عليه من أعمال الخير وإعمار الحياة، وكل ما ينفع البشر.. وهو عينه ما وجده في الثقافة العربية في الجاهلية والإسلام على نحو ما..
وقسم البحث إلى مدخل وثلاثة أقسام مركزة الكلام وخاتمة..
وتناول المدخل بيان حقيقة النظر في الظاهر والباطن بوصفهما من تجليات ظاهرة التصوف الأدبي، في الوقت الذي يدلان على أنهما جزء من فكرة دينية، أو فلسفة محددة لتفسير هبوط الروح من الوجد الأزلي إلى فكرة دينية أو فلسفة محددة لتفسير هبوط الروح من الوجود الأزلي إلى الإنسان لتصبح حبيسة (الطين) ثم محاولة التحرر منه والرجوع إلى الوطن الأصلي.
وعالج القسم الأول مفهوم التصوف لغة واصطلاحاً وأشار إلى شيء من تاريخه في إطار قراءة فكرية لجملة من الأفكار والموضوعات وعدد من أشهر أعلامه، وعرض الثاني لأبرز مفاهيمه وموضوعاته مثل التوبة والخلوة والحب الإلهي والوجد، وصولاً إلى الفناء بالذات الإلهية التي تتجسد وصفاتها من خلال بنيات فنية وأدبية تقابل مضامينها، مضامين التصوف الفلسفي والديني، وتوازي موضوعات مناظرة عرض لها المبدعون من الشعراء والناثرين، ولكنها تختلف عنها في الأهداف..
وبعد ذلك عرض المؤلف لنماذج من الأدبين العربي والفارسي منذ القرن الثاني حتى الثامن الهجري، لتكون شاهداً على ما ذهب إليه، ووفق الرؤية المعرفية المندمجة بين الثقافتين والأدبين وامتداداتها العظيمة إلى الثقافات الوافدة وفلسفتها الاجتماعية والفكرية أو في تجذرها في أرض المنطقة، ليصل في القسم الثالث إلى أبراز جمالية الأدب لغة وخيالاً، وإبراز تجلياتها الأسلوبية والبنيوية، ويختم بنماذج من الشعر الصوفي في الأدبين العربي والفارسي والفهارس مؤكداً من خلالها رغبة الصوفي وإرادته في تحرير روحه الربانية من قيد الجسد ورغباته المادية، وإعادتها إلى الجوهر الروحي السامي المنزه عن الشرور والآثام، في الوحدة الأزلية المطلقة وعبر عن ذلك كله في مواقفه وآرائه وأدبه شعراً ونثراً، وكان هذا الأدب يتركز في كل ما ينتمي إلى الشعر الفلسفي الديني، وإن دخل في موضوعات تبدو في ظاهرها موضوعات تقليدية، وقد استطاع الأدبان العربي والفارسي أن ينهضا بذلك كله من دون أن يطغى أحدهما على الآخر، إذ كانا يتكاملان في التأثر والتأثير في صميم التناص المتبادل، ويقدمان وظيفتهما بأسلوب مباشر من غير مقدمات أو رتوش.
وإذا كان الأدب الصوفي منذ القرن الثاني الهجري قد أثر تأثيراً واضحاً في الأدب الفارسي، فإن هذا الأدب استجاب لهذا التأثير، وعبر عن تناص عجيب لكل مفاهيم التصوف ومقاماته وأحواله وانتقل إلى التناص المعاكس، وترك أثره العظيم في الأدب العربي الحديث والمعاصر، ولما ظهر ذلك كله بتجليات عدة في حال العبادة الروحية والتعبير عنها بلغة الجمال والجلال، وأساليب أبرزت محاسنها في صميم الوحدة المطلقة ابتداء وانتهاء، كان لرابعة العدوية دور الريادة في الأدب الصوفي وتجلياته، إذ نقلت الفكر الصوفي إلى الأدب ثم ارتقى على أيدي المتصوفة والشعراء الذين رادوا فيه حقولاً عدة، وأبرزوا تجلياته المتنوعة من المفاهيم والمقامات، وكان كل شاعر صوفي قد اختص بتجليات محددة وأفكار ميزته من الآخر.
ويخلص المؤلف إلى ما مفاده، أنه إذا كان خلاص العمل من النية الصادقة، وابتكار الخواطر والأفكار من لدن العالم الحقيقي، فنحن أحوج ما نكون إلى إبراز وحدة الفكر الإنساني المنفتحة على الفضاء الكوني من دون تعصب أو انغلاق، أو انحراف وشذوذ، مهما اختلف أحدنا عن الآخر في مذهبه وعقيدته وجنسه وعرقه، فوحدة الأديان تعانق وحدة الأكوان ووحدة الأكوان ممثلة لوحدة الديان، وكلها تفرض على المرء ألا يدعي الكمال، فالكمال لله وحده، وهو أحوج من غيره إلى معرفة الهداية المستنيرة التي تكشف له عن الأخطاء التي ندت عنه في هذا البحث، حتى يطمئن قلبه ويرتاح باله، وقد انفتح على الحقيقة الساطعة عاملاً بقول الإمام علي رضي الله عنه يقول: «موتوا قبل أن تموتوا» أي موتوا عن أنفسكم وتطهروا من أعمالكم السيئة قبل أن تموتوا ميتة الجسد، ومن ثم تعرفوا على الحقيقة المطلقة.
وإن اتخذ كل شاعر صوفي أفكاره وتجلياته التي ميزته عن الآخر، فإننا نلحظ تقاربهم جميعاً في التعبير الجمالي عن وحدة الشهود ووحدة الوجود، وفكرة الفناء وظاهرة الزهد والعشق الإلهي بكل مقاماته وتجلياته، وكذلك وجدنا ابتعاده عن الموضوعات التقليدية التي شاعت في الأدب العربي، ليتركز هم الصوفي في البحث عن سر الروح والوجود وإقامة العلاقة القويمة مع خالقه، ما جعله مشغولاً على الدوام بالمحبة الإلهية ودعوة الناس إليها، ونبذ كل أنواع الأذى والشرور، ومن ثم كانت رسالة الأدب الصوفي رسالة أخلاقية نبيلة تخترق الزمان والمكان.
وهنا ندعو مع السهروردي في قوله: «اللهم.. خلصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك»
الكتاب: تجليات التصوف وجماليته في الأدبين العربي والفارسي. - المؤلف: الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب. - منشورات اتحاد الكتاب العرب ضمن سلسلة الدراسات 2013. - تصميم الغلاف: وسام المصطفى - يقع الكتاب في 233 صفحة من الحجم الكبير.