رحيل سراج لم تتجاوز رحلته الـ54 عاماً كانت مليئة بالعطاء...رحل قلمه، انطفأ سراجه... وبقي حياً في عقول وأفئدة ووجدان الأجيال اللاحقة.... رحل السراج وبقي نوره ينير دروباً من المعرفة ولعلها أقرب استذكاراً لتسميته بالدروبي.
الدكتور سامي الدروبي وهو الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته وترجماته المتميزة فترك لنا ما يزيد عن خمسة وثلاثين عنواناً بين مؤلف ومترجم حيث بدأها بعد عودته من باريس وأصبح آنذاك عضواً في الهيئة التدريسية في جامعة دمشق فتمكن بالاشتراك مع زميل له من ترجمة كتابين« ما بين التربية وعلم النفس» و«الفلسفات الكبرى» ولكنهما لم يستطيعا نشرهما لغلاء الورق آنذاك أي أيام الحرب الكبرى الثانية (1939-1945) حسب ما تذكر الموسوعة العربية.
ومن مؤلفاته «علم النفس والأدب» وهي في معرفة الإنسان بين بحوث علم النفس وبصيرة الأديب الفنان و«علم الطباع» و«علم النفس ونتائجه التربوية» «ودروس في علم النفس» ومترجمات كثيرة تناولت هذا العلم الحديث في القرن العشرين وتطوراته الفكرية حتى عرف د. سامي الدروبي مترجماً هاماً على صعيد الوطن العربي حيث أدرك أهمية الموهبة والمعرفة عند المترجم الأديب , وقد قال ذات مرة في إحدى حواراته«أعتقد أنني لا اضيف جديداً إذا قلت إن الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتصدى لترجمة الأعمال الأدبية هي كما تحصى عادة وكما يعددها سائر الباحثين في هذا الأمر ثلاثة: أولا التمكن من اللغة الأجنبية...
وثانيا التمكن من اللغة العربية... وثالثاً التمكن من المادة التي هي موضوع الكتاب أو البحث المترجم... أما بالنسبة للأدب هي توفر الذوق الأدبي وهذه موهبة تصقل , ولكنها لا تعلم فمن لم يكن ذا موهبة لن يحقق بموهبة، ولا يمكن أن يعلم كيف يتذوق الأدب».
فترجمة الآداب والفنون ليست مجر ترجمة آلية لجمل وكلمات عند الدروبي.. بل إنه كان يعي تماماً أن الموهبة وحدها هي الإكسير الذي يعين المترجم على نقل الأفكار واللامرئيات من حضارة لها خصوصيتها إلى حضارة
أخرى ليستمر الحوار الحضاري ويكون من أعماق النفس الإنسانية والتي بدورها تنتهي إلى جوهر واحد.
نذكر من ترجمات الراحل سامي الدروبي في الفلسفة والفن والآداب مسائل «فلسفة الفن المعاصر» لجويو و«الضحك» و«الفكر والواقع المتحرك» و«منبعا الأخلاق والدين» لهنري برغسون و« المجمل في فلسفة الفن» لكروتشه... ولا ننسى الأعمال الكاملة لدوستوفسكي وتولستوي و« تفكير كارل ماركس» وترجمات عديدة في عمق التأمل الإنساني.
من عطاءاته الجميلة أنه في العام 1971 قرر تقديم مكتبته إلى الجامعة السورية وفي 10/5/1971 وافق مجلس جامعة دمشق على قبول هديته إلى الجامعة.
وكانت حجة سامي الدروبي على قراره حين احتجت زوجته على قراره بأحقية أولاده في هذه المكتبة ، قال حينذاك « لن أنسى ما حييت كم كنت أشقى حين كنت طالبا جامعيا وكنت أرغب باقتناء المراجع، وكان ثمنها باهظاً ودخلي محدود...»
فرغم حياته القصيرة إلا أنه استطاع أن يترك اسما لامعاً في أرجاء الوطن العربي ويذكر حافظ الجمالي في الموسوعة العربية«شاعت ترجمات سامي الدروبي في كل أرجاء الوطن العربي، اذ قدم للناس ترجمات لم يقم بها أحد من قبله... كما لو كان يريد أن يترجم أدب العالم كله ومن سوء الحظ أن مرض القلب العنيف قضى عليه في عمر لا يتجاوز الرابعة والخمسين...».
وتكريما لهذا المبدع العربي الكبير ولجهوده الوافرة التي عمت حياته العلمية والسياسية فقد نال العديد من الجوائز والأوسمة الهامة قلما نالها كاتب أو مترجم عربي: اذ حصل على وسام الاستحقاق السوري من الرئيس الخالد حافظ الأسد في العام 1971 وكذلك منح جائزة اللوتس للترجمة في مؤتمر اتحاد الكتاب الآسيويين والإفريقيين الذي عقد في طشقند عام 1978، كما حصل على وسام من الرئيس اليوغسلافي الراحل تيتو كسفير وكاتب وأديب.
وأطلق اسمه على مدرسة ثانوية في شارع هنانو في دمشق، وسميت قاعة المحاضرات باسمه في المركز الثقافي العربي بحمص... وأطلق كذلك اسمه على أحد مدرجات كلية التربية في جامعة دمشق وحين وافته المنية في عام 1976 شيع تشييعاً رسمياً وشعبياً برعاية رئيس الجمهورية آنذاك والذي جاء فيما بعد شخصياً لتعزية أسرته به.