ويأتي انسحاب القوات الأميركية من العراق ليضع نهاية لعهد وبداية عهد جديد. فهذه الحرب التي شنتها ادارة بوش عام 2003 وسط إعلانات بتحقيق نصر سريع، لم تنته إلا بعد تسع سنوات كاملة وبشروط أقل كثيراً من الشروط التي ذكرت في البداية. وعوضا ان تكون هذه الحرب استعراضاً للقوة الأميركية، كشفت الحدود الواضحة لقوة أميركا، كما وضعت نهاية لعهد التوقعات الكبرى السائد منذ الحرب العالمية الثانية. لقد انتهى الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات، لتصبح الولايات المتحدة القوة الأعظم في عالم ما بعد الحرب الباردة. وتأكدت هيمنة أميركا على الساحة العالمية عندما شنت حرب «عاصفة الصحراء» التي أجبرت قوات صدام حسين على الانسحاب من الكويت.
وعندما كان بوش الأب يحضر الأميركيين لأول مواجهة مع صدام، تنبأ باقتراب زمن «النظام العالمي الجديد»، وهو ما جعل السياسيين والمعلقين يحاولون تقديم ترجمة لما يعنيه على أرض الواقع، وأسفرت جهودهم تلك عن ثلاثة ادعاءات رئيسية: - ادعاء أيديولوجي، وهو أن سقوط الشيوعية يعني انتصار الديمقراطية الليبرالية انتصاراً تاماً ونهائياً. - ادعاء اقتصادي، وهو أن نهاية الحرب الباردة أطلقت قوى العولمة وحرية الحركة الاقتصادية وحركة رأس المال، والأفكار والبشر. - ادعاء عسكري، وهو أن تكنولوجيا المعلومات المتقدمة أدت لأتمتة الحرب، وبات بامكان القوات المسلحة الإفادة من ثمار هذه الثروة لتحقيق فعالية غير مسبوقة في مجال العمليات العسكرية.
وقد خلقت هذه الادعاءات فرحة كبيرة وأصبحنا نسمع من كبار الساسة الأميركيين عبارات مثل «أميركا أعظم ديمقراطية في العالم، واقتصادها أقوى اقتصاد على ظهر الأرض»، و»المستقبل ينتمي لأميركا ومن يتبعون طريقتها في الحياة». ويأتي كل ذلك قبل هجمات 11 أيلول التي جعلت القوة الأميركية الهائلة تبدو ضحية للتاريخ أكثر مما هي صانعة له. ولم تكن استجابة بوش الابن الفورية لهذه الإهانة تستهدف تجنب حدوث هجوم آخر مماثل على أميركا، بقدر ما ترمي إلى تدمير الشكوك بأن التاريخ قد حاد عن البوصلة الاميركية. ومن هنا جاءت الحرب العالمية على الإرهاب، هدفها إثبات السيادة الأميركية على العالم، وإثبات صحة الادعاءات السابقة والتي تفاخرت بها الولايات المتحدة. ومن هنا، كان اختيار صدام حسين ليكون العدو رقم واحد لأميركا اختياراً معقولاً رغم حقيقة أنه لم تكن له صلة في هجمات أيلول، لأن الحرب على العراق كان هدفها الأول تأكيد فرضية أن للولايات المتحدة القول الفصل في مسيرة التاريخ، وكان نظام صدام حسين المتداعي هو العدو الذي يمكن هزيمته بسهولة. غير أن هذا الرهان لم يكن صحيحاً، واتضح سريعا انه رغم حقيقة تداعي وضعف جيش صدام، والقوة الساحقة لأميركا، لكن الصراع له تعقيداته التي لم تقدرها أميركا جيدا. وقد بدا في البداية بعد سقوط بغداد، أن النصر بات في متناول اليد، وهو ما دفع بوش لأن يعلن من على ظهر سفينة حربية أن «المهمة قد أنجزت».
لم تكن المهمة قد أنجزت بطبيعة الحال، واكتشف الأميركيون أن الحرب بدأت للتو، حيث بدأت التعقيدات في الظهور تباعا، ما أسفر عن خسائر بشرية ومادية فادحة. ولعل من أبرز الخسائر ، خسارة التاريخ ذاته الذي أصر الأميركيون فيما سبق على أنه قد حسم لمصلحتهم. والحقيقة أن الخسائر ليست أداة قياس نجاح الحرب أو فشلها، وإنما التداعيات التي تنتج عنها. وما نتج عن حرب العراق يجعلها تأتي مباشرة بعد الحروب الكبرى للعصر الحديث مثل الحرب العالمية الثانية، وهي بذلك تسبق في الترتيب حروباً مهمةً خاضتها أميركا مثل حربي كوريا و فيتنام. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تجمع لدى الأميركيين رصيد هائل من الرأسمال السياسي والمعنوي، ثم جاءت تجربة العراق وذلك الفصل المؤسف من التاريخ الأميركي ليستنزفا ذلك الرصيد. وبعد حرب العراق لن يحمل المستقبل عبارة «صنع في أميركا» بعد بروز قوى جديدة مثل الصين.
أما الديمقراطية فإنها حتى في الأماكن التي تكون النداءات المطالبة بها هي الأعلى، وكما في العالم العربي حالياً، فإن المحصلة النهائية قد لا تكون في صالح القيم الليبرالية. كما أن الثقة بأن العولمة سوف تكون عنواناً للمستقبل الاقتصادي، قد تعرضت للتآكل . إن القوة العسكرية هي المجال الوحيد الذي احتفظت فيه أميركا بتفوقها الظاهر، لكن قيمة ذلك بعد تجربة العراق وأفغانستان وغيرها من المهام العاجلة في أماكن مختلفة من العلم، باتت موضع شك كبير، وهو ما يعني تالياً أن كل المزاعم التي برزت بعد نهاية الحرب الباردة بات مكانها حالياً في مقبرة الأفكار الفاشلة