ما زال يقدم عوامل الارتكاس في النفس العربية ويوطد بصورة متدرجة الاعتقاد السلبي بأن ما هو قادم أسوأ بكثير مما هو قائم وبأن المستتر والمخبوء يتحفز لإحداث مستوى جديد من الضياع في مستويات الحياة العربية بكاملها.والمواقع الساخنة تتعهد بتواتر وتصميم على إنتاج هذه الدفعات من الآثار السلبية والمقدمات المهشمة التي صارت تستعصي على الفهم أحياناً.
لقد صار كل شيء مستباحاً بصورة كاملة أن يقتل الأخ أخاه وأن نصفق للمستعمر ونرحب به, وأن نتنازل عن مصادر الإرادة وضرورات القضايا ومكونات المصلحة بسهولة تامة بل عبر منطق البيع والشراء,في مناخ العالم الذي لا يعترف أساساً إلا على خاصية البيع والشراء إننا باستمرار نخشى أن تتحطم شخصية الإنسان العربي العادي بفعل هذا الهوس في اختيار المطبات واعتناق مذهب تبديل الحقائق وتفجير الاقتتال وتعميم ظاهرة الاحتراب ونخشى أن تفر مقادير الزمن من الأيدي القوية والعقول المتوهمة لنكون بذلك قد استسلمنا بذاتنا أولاً ثم أسلمنا مقاليد حياتنا للأجنبي والعابر والعابث, إنها صور مأساوية تتماوج مثل أشباح في الطرقات المظلمة ومثل اندفاعات مبهمة خلف عقل الإنسان ووجدانه وبعيداً عن وعي الإنسان وقدرته على الإحاطة والاستيعاب, وينسجم الاتجاهان معاً في رصد هذه الظاهرة, أعني طبيعة الوقائع الجارية من حيث تفجرها وغرابتها ومن حيث رفض الجميع لها.
ثم يأتي الاتجاه الثاني حينما نشهد هذا الحال المتزايد في سرعة التدهور من خلال اليأس الذي يتسلل إلى النفوس والمصداقية التي تغيب عن المواقف ويبقى الخاسران في الميدان تطاردهما الريح الصفراء وتحاصرهما الرمال المتحركة وغيوم المطر الحامضي والمجهول الذي يأتي مع الخطوة التالية والخاسران هما الإنسان العربي ورسالة هذا الإنسان.إن بعض الحكام العرب لا تنطبق عليهم معايير الخسارة هنا فهم في وادٍ آخر غير مقدس وغير واضح تحركهم هواجس الذات ونزعات التحكم وشهوة السلطة وهم غرباء عن مجتمعهم وعن القضايا الكبرى وبالمحصلة غرباء عن الكارثة التي تحدث الآن والمأساة التي تنتشر بصورة مسرحية لانهاية لفصولها صارت تأخذ بالإنسان العادي إلى مستوى أن يتلذذ بالنزيف ويضحك على الجرح ويرقص في اللحظات الأخيرة ما قبل الموت.
وما كانت تثمر من النظم السياسية العربية في أي مرحلة نتاجاً طبيعياً ولو في الحد الأدنى لإرادة الجماهير وما كانت وسيلة لتحقيق هدف مشروع بل كانت تطلق معاييرها على أنها هي الهدف والوسيلة معاً وهي البداية والنهاية معاً وكل شيء يجب أن يقاس بمعايير النظام لا بمعايير الحقائق حتى لقد تراجعت كل المعاني والمعالم المتصلة بالمصلحة العليا وحقوق البشر ومصير الناس في الوطن العربي المنكوب.
وهنا فرضت الكارثة نفسها وباندفاع غريزي منظم حيث صارت الجماهير عدواً لهذه النظم التي بدأت رحلة البحث المشؤومة عندها في استعارة أو استيراد مصادر الأمان من الخارج.
ولنتصور الآن كيف آلت القاعدة العامة إلى هذا الوضع المقلوب, أنت قوي بالغريب الحاقد وضعيف بشعبك, أنت آمن برعاية المصادر الواقعة خلف البحار والمحيطات ومهدد من أشقائك ومواطنيك وزملاء حياتك ورفاق طريقك ولقد تبدو هذه الخيارات صعبة أول الأمر فيكاد لا يصدقها الإنسان العربي العادي.
ولكن واقع الحال يعيدك عبر الصدمة إلى حالة الصحوة لتكتشف أنك في تيار انهيار أكبر من وعيك وأبعد من مدى نظرك وأسرع ايقاعك الرتيب المترهل أمام الطوفان والطغيان, والاسئلة الثلاثة المرة هي:
- كيف غابت أو غيبت قوى الحياة عن المشهد العربي حتى آل إلى هذه الدرجة من الابتذال والانقلاب على القيم والتسليم بالأمر الواقع?
- ما الذي يؤسس لهذه المواقف والسلوكيات في الداخل العربي حتى لقد صرنا مضرب المثل في التناقض والتناحر المجاني?
- ما الذي يدفع الناس في الشارع العام للصمت أو للتوزع المتعسف على المسارات والقوى عبر تصنيفات لها ظاهر براق وعمق متآكل?أسئلة مرة والجواب عنها متداخل معها والتساؤل أحياناً هو نصف الجواب كما يقال في المنهج الاعلامي, والخوف الآن من منع أو امتناع التساؤل المر نفسه بحيث لا يملك الإنسان الفرد ولا تملك المجموعة المنظمة أن تجرؤ على طرح السؤال ما دام الجواب نفسه قد صودر تماماً ونشرت ثقافة الامتناع عن التفكير بالجواب.
وجاء الدور الآن لنشر ثقافة الاقلاع عن عادة السؤال والتساؤل, صار للفاعليات البشرية في الوطن العربي دور واحد وحيد بشعبتين مثل لسان الأفعى السامة شعبة تضبط فعل الإنسان على أساس التبعية للحاكم والمستعمر معاً والتسليم المطلق بأن كل شيء يمضي في مقاديره ويتحرك عبر معاييره,وكل ما يتقدم هو طبيعي وكل ما يحدث هو إنجاز مادي ومعنوي ولكن الناس لا تدقق النظر أحياناً.
وقد دنت لحظة صياغة الرؤية عند الناس على قاعدة اعتناق الواقع (الجميل) المزدهي بآثامه ومزقه والمعطر برائحة الدم والمستوفي لشرط الزينة باللون الأحمر القاني الذي يستخرج من اشلاء الأجساد المقطعة والمتناثرة في هذا الموقع أو ذاك.
والشعبة الثانية تمثلت في عقلية إعطاء الأمر لصاحبه فهناك حاكم خبير وهناك صاحب قرار لا يرد وهو مبشر بالجنة معصوم عن النقد محاط بهالات القدسية قيمته بذاته وكل ما يصدر عنه هو فقه ملزم وسنة لا يجوز إلا اتباعها والإنسان محاصر ما بين الطوفان والنار, يتململ في ذاته يجول النظر في المشهد المحيط به كأطوار القيود ثم ينكفىء وقد عض على الجرح وتذكر أن أفواهاً جائعة فاغرة تنتظر منه أن يعود بربطة الخبز وبالدفتر والقلم الناشف لكي يتمكن هذا الطفل من ممارسة رفاهية البحث عن لقمة العيش والانتساب للمدرسة العامة.
والاسئلة المرة والفصول المتتابعة لمشاهد الألم والهمجية تفرض نفسها, صحيح أنها تقمع وعي الإنسان وتصادر حلمه لكنها تفعل ذلك في السطح ومن الظاهر.
أما الإنسان ذاته فهو يعتمد فكرتي الاختزان والاختزال ويرحل إلى العقل الباطني وإلى المستودعات الخلفية في وجدانه كل تفاصيل المشهد المأساوي.
وقد يتراءى للآخرين أن الأمور تمشي بسهولة وتمضي في تواترها دون فعل أو رد فعل يكاد يذكر, في هذا السياق تفرض نقاط ثلاث حضورها على قاعدة التقويم وخطا المواكبة لكل هذا الذي يجري في الداخل العربي.
1- أما النقطة الأولى فهي هذه المعارك غير المعقولة وغير المفهومة, من الذي أقنع حملة البنادق ومحافظ الدولارات وهواة التصريحات الاعلامية المصابة بالإسهال على أن يدخلوا في جوف هذا النفق المظلم والمسدود والمتعفن أما لاحظت القوى والفصائل التي ولدت أساساً في البيت القومي وفي حاضنة البحث عن تحرير الأرض واستعادة الحق, أما لاحظ هؤلاء أنهم انقلبوا على أصغر وأدق التفاصيل فيما انطلقوا منه أصلاً وفيما باركتهم الجماهير عليه أساساً, لا يعقل أن تكون هذه الحالة مصادفة أو مجانية أو أنها إيحاء من السماء ولكن الناس لم تلحظه ,هناك إرادات وهناك تصميم.
السني الذي يقتل الشيعي في العراق الحبيب والشيعي الذي يقتل السني في بلد الوحدة والتسامح والتاريخ الناصع كلاهما مجرم وآثم ومن امتدت يده الصفراء المشلولة لتدمير بيوت الله عبر المساجد المقدسة وأضرحة الأئمة والعتبات الرائعة لا يمكن تصنيفه على أنه عميل أو خائن فحسب تلك ظاهرة متداولة تاريخياً ومعروفة في الوطن العربي.أما هذا المنسوب العاتي وهذا التوغل في الجريمة هو حقد أسود واحتقان مزمن واستعداد للسقوط واستطالات موبوءة تأتي من الخارج مع المستعمرين وأصحاب المعتقدات الحاقدة والمتربصين منذ الأزل بوحدة هذه الأمة في نسق حضارتها, وعيشها المشترك ومسيرتها الواحدة.
ثم كيف لنا أن نفسر هذا الذي يجري بين حماس وفتح? كيف نفسر منطق سفك الدم من جهة وكيف نفهم هذا التناقض النوعي بين الادعاء والتطبيق العملي? ألم يدرك هؤلاء أنهم يعتدون بذلك ليس على مشاريعهم الذاتية وإنما على مقدسات البشر وحرمة أديانهم ومنطق انتسابهم للخير والعدل وتقديس الإنسان نفسه, وإذا اقتطعنا من لبنان جزءاً من المشهد فبأي معنى وبأي مقادير يأتي كل هذا اللعب والتلاعب بالهدف السياسي وكل هذا التفريط بدور لبنان وانتصارات المقاومة وإنجازات الصمود وانعكاس ذلك كله على معادلات الصراع العربي الصهيوني إنه منطق الأسئلة المرة المتدفقة والمتدافعة.
ولم يعد الأمر احتساباً لخطأ أو سوء تصرف في واقعة معينة, أكاد أقول إنه شذوذ التسيب واستبداد منطق البندقية وجواذب شهوة الحصول على المكاسب من أسياد المال وبيوتات الدعارة السياسية.
2- والنقطة الثانية تأتي أكثر خطورة وضغطاً على الوجدان والعصب عند الإنسان العربي فإلى أي مدى يمكن لهذا الإنسان أن يصدق الإعلان والإعلام في الشعارات المصدرة والفاقعة, ألم يدخل في خلد هؤلاء الضاغطين بسهولة وسادية على الزناد والمصدرين للرصاص والموت أن للصبر حدوداً وأن للمصداقية قواعدها وبراهينها, ولا يوجد في الساح سوى المشاهد المتتابعة من قتل الابرياء وتدمير البنى واستهداف الأماكن المقدسة.
وإذا كانت هذه القوى المتصارعة في ساحاتها الساخنة العراق ولبنان وفلسطين قد تصورت بأن الجماهير استبعدت وانتهى أمرها وبأن الفرصة قد منحت لهذه القوى من قوى الخارج لكي يمددوا أشواط مباراة سفك الدم إلى آخر يوم في الزمن وآخر محطة في قطار التاريخ.
إذا كان هذا هو تصورهم وهذه حدود وعيهم فكيف لهم أن يقنعوا أحداً الآن بأنهم نهضوا من أجل العراق أو فلسطين أو لبنان لكنهم وقعوا في التيه وحاصرتهم الكثبان المتحركة وصارت كل يد تقطع الأخرى بدلاً من استنهاضها لينجو الجميع من المأزق وليخرج الوطن من أقسى أيامه.
وإذا كان الأمر الجماهيري لا يعني هؤلاء على الاطلاق فتلك هي الكارثة الحقيقية وهذا ما نتخوف من إقراره لأن الخيار الوحيد عندها لن يكون في خروج الطيبين والمصلحين للحجز بين المتناوبين على لعبة الموت في محطة كهذه تتقدم الجماهير خطوة أخرى لا لتلعن الظلام بل لتنهي لعبة الموت المجاني المتكاثر كالوباء.
3- وأما النقطة الثالثة فهي في نمط انعكاس صورتنا كعرب وأصحاب حقوق وقوى بنت ذاتها في النضال وبحثت عن لحظة النور وموعد الخلاص من المحتل والنهب والتخلف والجوع, الآن ترحل كل هذه الأبعاد ونتحول إلى مسرح كبير يمتد من العراق إلى لبنان ومن فلسطين إلى الصومال ومن بقعة مجهولة أو معلومة إلى دارفور, لقد صرنا فرجة مادة لالتقاط الغرائب وتصوير العجائب بوسائل الاتصال والرصد والاعلام (الميديا).
وغداً أو بعد غد سيكون لأراشيف وزارات الخارجية الغربية ومراكز مخابراتهم مادة ثمينة يطرحونها على شكل أفلام ومسلسلات ووثائق يتسلى بها العالم هرباً من ضجره وبحثاً عن جديد شاذ بعد أن شبع وأشبع هذا العالم الغربي من القوة والسيطرة وميادين التطور المادي والتكنولوجي.
أكاد أقول هي مأساة ملهاة تمثلها القوى المتصارعة في الوطن العربي بإتقان وسادية والنهم يضغط أكثر وحالة الافتراس تبحث عن ضحايا وعن ايقاعات جديدة لكي تزهق روح الطفل ويدمر المسجد وتنسف الحسينية وينتصر حق الآخرين ومشروعهم التاريخي.