بل يذهب لمعنى الفاعلية الشعرية- المستمرة -بالاتكاء على تلك الجدلية الأثيرة بين الذات والآخر, فيعاين النصوص بوصفها منتمية إلى فضاء ثقافي ذي أبعاد دلالية وبلاغية, وعلى الأرجح أن نصوص النثر, سواء تعينت في ذات الحقل الاشكالي - قصيدة النثر- أو الشعر الحر, ستستدعي الوقوف مجدداً أمام معنى الفاعلية الشعرية بل الدينامية الإبداعية وصيرورة الخلق الأدبي , الخيال والصور والايقاع واللغة وسوى ذلك , فضلاً عن أن البحث الجدي والمشروع في شعرية قصيدة النثر من شأنه أن يعيد النظر في بناء القصيدة وتشكيلها اللغوي , وعلاماتها وليس فقط بحثاً عن الجماليات, ( جمالية المرسلة اللغوية والوحدة الجمالية الشعرية) مثلاً مع النثر - إذن- ليس من (سلطة) مكتفية أو مجردة , لأن تكامل التعبير الإبداعي سيلقي على أفق الانتظار سؤالاً دائماً هو ما الجديد ?!
فما يستطيعه النثر كفيضٍ يقارب وجودنا بالمعنى الأنطولوجي, يبقى رهاناً على اكتمالنا وسعينا لذلك الاكتمال, فذريعة النثر هي ذريعة الوجود النصي الذي يحاكي بفطنته المسلمات البسيطة بدءاً من الكلمة التي تبوح بما ينقصها , فالنثر مديح نقائصنا واكتمالنا أيضاً ولكن بما يمتلك من مفاتيح لا تستنفد.
قلب من ورق الخرشوف هو الديوان الجديد للشاعرة ماريانا قرجولي بعد ديوانها الأول
( معك أستطيع أن أكتمل) إذ لا يبدو غريباً أن نقول هنا إن الشاعرة قرجولي في منجزها الآخر- النثري- تستأنف ما بدأته , بل تستأنف مشروعاً يوطد العلاقة الرؤيوية مع الكتابة فهي تؤرخ زمانياً ومكانياً لتجربتها بمعنى نثر الأوراق الطافحة بأبعاد تلك التجربة ومناخاتها وألوانها بدلالة ما يحيلنا له العنوان ببنيته الشارحة والمفتوحة بآن معاً.
ثمة نصوص قصيرةمقتصدة, وأخرى متسعة تأتلف في فضائها الومضة والنثيرة وما يميز بعضها,طاقة السرد وتنوع مقاماته,يحكمها الايقاع الداخلي المتوازن بصرياً ومشهدياً, إيقاع الصورة واللغة والمعنى دون تجاوز ( التيمات) التي اشتملت عليها النصوص, سواء التي حملت عناوين أو أرقاماً ( لقيمة ليست سائغة ) تقول الشاعرة ( لقيمة مباركة, لقيمة كبرت عليها أركان الأرض..لقيمة ليست للجوعى إنها وجبة الروح) , أو تميل إلى تكثيف اللحظة الشعرية بما يعطي المعنى دلالة متحركة, بالانطلاق من بديهيات بسيطة تقبض في تشكيلها اللغوي المقتصد على حدسها الباحث عما يكمله( لحظة الصوم الكبير..أنت فيها.. الإفطار كله) وبهدوء تبني سونيتتها بنظام الكتلة كما في : إلى أمي( أيتها العينان الجميلتان المهاجرتان.. أين سأحط بمزق طفولتي? في الألم حين يمر مصادفة). لا تركن الشاعرة إلى الصياغات اللغوية الجاهزة, أو التصورات الذهنية المجردة التي تسم قصائد النثر في الأغلب الأعمّ, بل تؤثر بسردها الشعري( النثري) درامية تنجح في توظيف التكرار والتوازي:( عندما تمر.. أنحني كما الغصن ينحني للمطر.. وبينما تهمي أنثني, وأنثني..وأنكسر ..وأرتطم..)
إن صيغ الأفعال لا تعني هنا مستوى نحوياً صرفاً , بقدر ما تعني توثباً في المستوى ( الغنائي السردي) الدرامي يفضي في دلالته المتحركة إلى معنى البحث عن الهارموني في طبقات النثر, وحركته الختامية, التي تشكل الذروة في قصيدة النثر ,( مر دهر. والأيام تقتات على فتات ذكراك..يرحل ليل المصباح..وأنا متمددة..بيني وبين السماء أنت..فوقي وتحتها تلهو أنت..(..) لابد من ذلك القسط من الزمن .. الذي لابد وأن يمر قبل أن نطبق كلتانا عليك), بين فكي الحب تبرع ماريانا باشتقاق معادلات الحضور والغياب, فالغياب هو نص الحضور بجمالية فطرية ينبعث ضوء ( حلمي) ومسعى الشاعرة هنا هو الاتكاء على جوهر الحياة, لتفارق الغياب بوصفه عدماً ( في كل ربيع أمارس طقوسك .. فيمتلئ مدخل البيت, بأشكال عودتك..أو في سكود عصر لتزين صباحك..) , إلى أبي قصائد مريانا المنزاحة لشعرية أعلى, وبحضور ( الانزياح) بالتوازي مع إيقاع الصورة, تؤسس لذائقة واستجابة وهي تقطر ماء الشعر فوق مساحات رحيبة من ( ترائب) اللغة لتتحدث عن كائنات ألمها, حنينها, حزنها, ودهشتها البكر ( أربكتني ربطة عنقك..أربكني رضاي/سكنتني أنا التي لا أتسع لأحد فهل هي عودة إلى أساس حزن وقلق عميق يلف كل الشعراء) كما تقول الشاعرة التي لا تأتي قصائدها بغير أسباب الحنين وبشبهة الشعر المفتوحة على الغوايات للقارئ وهو يجوب تلك ( الجغرافيا) أن يجد أسباباً إضافية للشعر الذاهب للمستقبل والذي يحدس بالوجود وبالصمت وبالحب والذكريات, وبالحلم المكتوب بماء الروح, وعلاماته ومنظومته الإشارية تتكامل هنا في رؤيا شاعرة تكتب فيضها بفرادة وخصوصية , فرادة صوت خاص مشغول ليس بالمحكي اليومي, أو الصوغ الذاتي لما تلتقطه الحواس, بل مشغول بجماليات ما تصطفيه الذاكرة من حدائق الكلام المعلقة ما بين الرغبة والشعر لما يعد به قلب الخرشوف وأوراقه بمجازاته النضرة ومخيلته المتطلبة ( لحضارة كنوز الكلام) ولما تنتجه من نثر طيع ,نثر الحياة فيما ذهب إليه ( سيرفانتس) بالقول: ( فليتكلم الورق ويصمت اللسان, القلم مرآة الروح الوحيد)
الكتاب: قلب من ورق الخرشوف
المؤلف: ماريانا قرجولي
الطبعة الأولى 2006
الناشر: دار عين الزهور- سورية /اللاذقية