|
إيقاظ العملاق آراء لمتتبع هذه الشخصية أن يقرأها إما على أنها شخصية جامدة وقديمة وإما أنها شخصية متحولة وفق أي طارئ وضرورة, وهنا وبناء على النسبة العالية من كلا الشخصيتين يمكن فهم وضع المجتمع ككل ومدى استعداده ليكون عصرياً ومتفاعلاً مع وسائل ومنتوجات الحضارة العالمية أم يبقى تقليدياً متلبساً ثوب قديمه, وإن كان قد صنع أثواباً زاهية تدل على حداثته أو اعتماده لشل التعبير عن حداثة هي مظهره القشري القابل للخلع متى تتاح فرصة إحياء الماضي أو تطلق تلك النظرة الماضوية الأكثر لمعاناً من نظرة العصر الحالي, لكونه مجتمعاً ما يزال أسير الصراع ما بين قيم الماضي على أنها: أصالة قادرة على الحياة الفعالة في هذا العصر, وبين قيم الحداثة التي هي ثمار الحضارة العالمية بحجة أنها غريبة وغربية ولا علاقة تاريخية لبنية المجتمع العربي بها. قلت هذه الأسطر كمقدمة مهيئة لعودتي بذاكرتي إلى جلسة ما حيث كنت وأربعة آخرين يشكلون عينة للنخبة الإدارية, فبعد نصف ساعة من شبه الصمت الذي خيم على ألسنة الجلساء تفجر الكلام حول بلاغته وخاصة أساليب الإعراب والنحو وأمام استمرار جمود لساني الذي قيدته برغبتي في سماع ومشاهدة انقسامهم إلى كوفيين وبصريين وهما المدرستان الأكثر شهرة في العصر العباسي لمدى اهتمام واختلاف العرب في النحو وإعراب لغتهم, فإذا بأحدهم يثير سؤالاً ملفتاً وتقليدياً عن إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة ويستطرد السؤال بإجابة ما قاصدا استفزازي للتدخل في الكلام وهو على معرفة بي وبقدرتي على الخوض في إجابة مزلزلة حول هذا الأمر, وكما قال بالحرف: هيا أشعل هذه الجلسة برأيك? بادرتهم بسؤال بسيط ولعله يكون مؤشراً لمدى العمق القابل للتعكير حين يبدأ النقاش حول الثقافة وبالضبط حين يكون الأدب العنصر الأشد فعالية فيها, ماذا يقرأ كل منكم في هذه الأيام. ذكرت كتب من التراث والكتب السياسية المترجمة, وحين غيرت عمومية السؤال إلى الخاصية التالية: وفي الأدب العربي الحديث والأدب العالمي ماذا قرأتم? ثمة معرفة سماعية ناتجة عن إقراءات صحفية متسرعة, وثمة استخفاف بهذا الأدب الحديث وخاصة الشعر التفعيلي وغير الموزون منه وبالخلاصة لا أحد منهم يقتني كتب الأدب الجديد ولا كتب الحداثة ولا يعرف عن قرب وإلمام ما أنجز خلال ربع القرن الأخير, إن رأياً بائساً طغى على وجه أي منهم حول مقت كل ما هو حديث ولا حاجة لإعطائه أية قيمة أو احترام? وسأذكر قصة موثوقة جرت مع أحد ما حين أرسل تابعة يوماً إلى مكتبة ما وطلب كتباً لتعبئة الفراغ الباقي من المكتبة البيتية التي فصلها وبطول خيط يحمله هذا التابع وبغض النظر عن نوعية الكتب أو فيما إذا كانت فيها نسخ ما وضعت سابقاً في تلك المكتبة, هنا دخلت معهم في عراك كلامي وبعد أن احترمت وقوف ثقافة أي منهم على التراث وخاصة النحوي والديني استبعدت تحقق جدوى الانخراط معهم في جدل إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة, دخلت معهم في متاهة الأسئلة التي لا تحتاج إلى إجابات نظرية وخضنا في الحديث عن النخب العليا في أي بلد: العسكرية والاقتصادية والإدارية ووضعت أمنية جمالية حول هذه النخب: لو أن نصف رجال المال والأعمال يشترون من نتاج المبدعين في الأدب الجديد, وهذا النتاج هو أقل من مئة كتاب يصدر سنوياً وبعدد نسخ غالباً ما يكون أقل من الألف وهنا وبالمقارنة أؤكد أن أي شخص من تلك النخب يقتني على الأقل حاجة كمالية غير ذات نفع حقيقي كافية لشراء نسخة واحدة من كل ما ينشر سنوياً في سورية مثلاً, وبهذا الموضوع واجهت جلسائي بتحدي أن يثبت أي منهم أنه يشتري كتاباً واحداً من الأدب السورية وبكل أجناسه والصادر حديثاً وكل منكم قادر فعلاً على شراء نسخة من أي كتاب يصدر حديثاً وإذا كنتم تريدون الحديث في أية إشكالية عليكم بمعرفة وثيقة لطرفي هذه الإشكالية وهنا كان يكفيني أن أذكر بوضعين تاريخيين: الأول عندما ظهرت بوادر الحضارة العربية الإسلامية كان معظم من شارك في نشاط الدولة الناشئة قادراً على الفقه والاجتهاد وقرض الشعر وتقيين الواقع والتأثير في تفعيله نحو الأفضل ويؤكد قولي ذلك الكم الذي لا يحصى من الأسماء المبدعة المذكورة في التراث العربي, والثاني أنه ومع ظهور النهضة الأوروبية تميزت النخب الاقتصادية والعسكرية بنفسها الأرستقراطي وهذا النفس يقوم على ثلاثة أركان: الثروة والمركز الاجتماعي وحب الفن والأدب, ولذلك رعت البورجوازية ومن بعدها الرأسمالية العلم والفن والأدب وكل ما يتوجه بالحياة نحو الإبداع والكشف والخلق فكانت الحضارة الغربية التي خلقت الكثير من الإضافات المذهلة على وجوه الحياة التي ازدادت وضوحاً وفتنة. إذن النخب في أي بلد عربي لا تقرأ ولا تقتني الكتب الأدبية الصادرة حديثاً, وهي في حالة شبه جهل مطبق بالأدب المعاصر ولذلك إن مستقبل العرب محفوف بخطر التبعية التامة للآخر ولا بد من إيقاظ العقل الكامن في الكيانات المجتمعة على شكل نخب قادرة ومقتدرة ليتحقق للإبداع وعلى كافة الصعد ذلك الحضور الحي والحيوي والعصري وليكون للهوية ذلك الوهج الخاص في كتاب التميز الحضاري, وإن الأمر مرهون بوجود رعاية ودعم وحماية لحرية الإبداع واحترام لذلك الجدي والجديد فيه.
|