نقش الحجر الأول,
هو فن الكهوف البدائي بحق, لكن الباقي أبد الدهر,
بخطوطه وانحناءاته وألوانه وتعبيراته, رغم كل ما تلاه من مدارس الفن وتنوعاتها, لذا ستبقى قصة الطير الأخضر والطفل الذي تقفى أثر العودة الى منزله, بالحصى الأبيض, ثم فقد الطريق, حين نثر حبات القمح, لأن الطيور بادرت الى التهامها, أقوى أثرا بما لا يقاس من روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس, بل وحتى ماركيز ووليم فوكنر في سنوات لاحقة!.
أجمل ما في عملية تلقي القصص والحكايات في فجر الحياة, أنها تواصل التقدم في العمر مع صاحبها, وأنها تكشف له اسرارها يوما بعد يوم وسنة بعد سنة! من ينسى مثلا قصة السد الكبير مانع السيول والفيضانات, الذي شارك في بنائه كل أهل القرية, وحين غضب أحدهم من أهله, عمد الى انتزاع الحجر الذي شارك في وضعه, ولسوء الحظ كان هذا الحجر في أسفل السد, وحين عمد الى انتزاعه, عرض القرية برمتها الى غضب الماء والدمار, أين منه غضب الرجل الأحمق? انهار السد, وضاعت الجهود الجماعية, وأحلام الحماية للبيوت والاطفال, ومواسم الزراعة والقطاف المنتظرة!.
- مدلول الحكاية, يدخل أبعادا اجتماعية وفلسفية لا حدود لها, تقارب نشاز الفرد ضمن الجماعة, واصطدام مفهوم الحرية الفردية بمصلحة الجماعة, وعبثية استخدام الملكية الشخصية, ولو أدى ذلك الى خراب الكون!.
هذه الحكاية, تزقو كالطائر الذي يخرج من قفصه كلما ارتطمنا بشخص يتصرف ضمن الجماعة, تصرف الرجل الذي استرد حجره من قاع السد, ولكم زقا هذا الطائر, حين يتجاهل الجار أهل حيه ويتصرف في حديقته, بناء, ورفعاً لوجائب أو سقوف, متجاهلا الاذى الذي يسببه للجيران ماديا ومعنويا! ما علينا هذه مسؤولية البلديات وسلطة الدولة, أما أن يعمد مدير المركز الثقافي في دير عطية الى حرمان قاعة المسرح من التدفئة أثناء عرض مسرحية سندريلا للاطفال فهذه مسألة فيها نظر, وتستحق أن نصغي فيها الى طائر حكاياتنا! قيل لي مراراً, وبمرارة, إن الرجل احتج على ان اتصالات الفرقة تجاوزته, ببراءة, في مفصل من مفاصل الترتيب لبدء العرض, لذلك ترجم احتجاجه الى حرمان المسرح من التدفئة في عز كانون!.
وهذا لعمري, يستوقف السامع في عدة نقاط! أولها صقيع القلمون القاتل في ليالي الصيف وأيام الربيع فكيف في كوانين? وثانيها تخيل زرقة الاطفال, وهم بالملابس الخفيفة على المسرح, واصطكاك أسنانهم وهم يتحدثون ويغنون, عدا عن برودة القاعة السيبرية (كما في الروايات الروسية) التي تجمد فيها الجمهور! وثالثها قول المدير إن التدفئة معطلة في المسرح, رغم أن المسرح المذكور موجود ضمن قصر الثقافة الذي نعمت كل اجنحته بالدفء الوثير في ذلك الوقت! وحين طلب منه حجز آخر لعرض المسرحية القادمة من حمص, أعلن ببساطة أنها لم تجلب جمهورا يذكر, لذا لن يوافق على اعادة العرض! وبمناسبة الحديث عن مسرح (دير عطية) لا بد أن نتلبث قليلا في هذه الارض, وأن نطوف بإعجاب شديد بين المنشآت العلمية والثقافية, والصحية, والإنسانية, وأن نلحظ النظافة المثيرة للدهشة, والإرادة التي انتزعت ارضها من الجفاف الشديد وزرعتها بالغابات الفتية طولا وعرضا, حتى استحقت إكليل عاصمة الجمال والتنظيم (هل في ريفنا من الشمال الى الجنوب متحف كمتحف دير عطية? أو مشفى كمشفاها, أو جامعة كجامعتها?).
ألا يحزن النفس أن نجد في بلدنا, وأمام كل بناء مشيد, رجلا ينهض من معاني حكايات الماضي, ليمد يده, غافلا, أو متعمدا, لينزع حجره الشخصي, ضاربا عرض السد, بمصلحة الجماعة, حتى لو كانت هذه الجماعة سربا من أسراب الاطفال, الذين نحب?.