ومع وعد بتأمين مصالح اميركا في العالم بالطرق المناسبة ، نافيا ان يكون تحوله الى المحيط الهادئ تخليا عن الشرق الاوسط ، وخاصة ان اميركا نفسها وفي المفهوم الاستراتيجي الذي اعتمدته للناتواكدت على هذه المنطقة باعتبارها المنطقة الاستراتيجية الحيوية الاولى في العالم بالنسبة لها وللغرب. حيال هذا المشهد كان للمتابع ان يتساءل : كيف ستحمي اميركا مصالحها بعد هذا الانكفاء االعسكري المباشر ، وبعد الالتزام بعدم فتح الجبهات لقواها العسكرية التقليدية ؟
هنا يجد الباحث اولاً في نص استراتيجية الاطلسي الجديدة عبارات ترشده الى النوايا الاميركية ثم يجد حالات تطبيقية في كل من العراق وليبيا والسودان تؤكد القرار الاميركي ومن خلال كل ذلك نستطيع القول بان « استراتيجية الفوضى الخلاقة « التي اعلنها الجمهوريون لم تطو مع خروج بوش من البيت الابيض ، لكن اسلوب تنفيذها مع الديمقراطيين تغير دون تغيير في الثوابت من الاهداف.
وفي نظرة على النصوص الناظمة نجد ان عبارات «الازمات « و»خلايا ادارة الازمات ، و» الانهاك الداخلي» و»التآكل الذاتي» ، هي عبارات تحفل بها الدراسات الاستراتيجية الاميركية اليوم وتتصدر القرارات او التقارير التي توصي صانع القرار بعمل ما.
وفي الميدان نجد ان العراق الذي لم يستجب لاميركا بتمديد الاتفاقية الامنية كما ارادت ، بات بعد الانكفاء العسكري الاميركي المباشر مرتعا للقلق على وحدته واستقراره وامنه بسبب اليد الارهابية التي تدير عملياتها بتوجيه اميركي، والمواقف السياسية التي تتحرك استجابة للاوامر الاميركية والتي لم يخجل مطلقوها بمطالبة اميركا بالعودة وممارسة نفوذها من اجل اقامة حكومة عراقية « متوازنة «.
وقبل الانسحاب من العراق كانت اميركا قد انجزت واطمأنت الى تنفيذ التقسيم في السودان ، حيث واكب التنفيذ عملية عسكرية اطلسية جوية نفذت ضد ليبيا فاقتلعت نظامها ، ودمرت بنيتها ، وشتت قواها واحالت البلاد اليوم الى بلد يصعب حكمه اوالسيطرة عليه ، ما جعل المسؤول الانتقالي عنه يقول بان الحرب الاهلية والفوضى الشاملة هي اليوم اخطر التهديدات لليبيا والتي لا تملك سلطتها ما يحول دونها.
وفي سورية، حيث حطت الازمة المفتعلة برحالها منذ ما يكاد يقترب من السنة ، حشدت اميركا كل متاح ومتيسر من مال واعلام وقوى سياسية محلية واقليمية وعربية ودولية ،وانطلقت متصورة بانها ستطيح بسورية وحدة ونظاما وقوة استراتيجية ، بمهلة لا تتجاوز صيف 2011 وفي ابعد تقدير نهاية السنة الماضية ليترافق الانهيار السوري كما خططت مع الانسحاب الاميركي من العراق ، فيكون الانجاز تعويضا للانسحاب اولا ثم التفافا عليه ثانيا.
لكن الميادين السورية كذبت الحسابات الاميركية حيث صمدت سورية واسقطت كل الرهانات ، وهنا كانت اميركا امام خيار مما يلي:
-الانكفاء والتسليم بالهزيمة والسعي الى اعادة ترتيب الاوراق وفقا للمتغيرات المستجدة.
-الهجوم العسكري المباشر واحتلال سورية باعادة التجربة العراقية وادارة الظهر لمجلس الامن المقفل امامها بالفيتوالروسي – الصيني.
-الاستعاضة عن العمل العسكري المباشر ، بحرب بديلة مركبة تؤمن الاهداف ولا تتسبب بخسائر لاميركا.
وفي المفاضلة كان منطقيا ان لا تتقبل اميركا فكرة الانكفاء لان فيها التخلي عن اهم منطقة في الشرق الاوسط ذات تماس مباشر مع اسرائيل ، اما الحل الثاني اي الاحتلال على الطريقة العراقية فرغم انه يغاير الاستراتيجية الاميركية الجديدة (وداعا للحروب ) ، فان ظروفه غير متوفرة مع مخاطر الحرب الاقليمية الشاملة التي ستطول نيرانها اسرائيل وتنفتح على احتمالات قد لا تكون مريحة لها امنا ووجودا.
وبقي امام اميركا الحل الثالث الذي ينسجم مع استرتيجتها الجديدة وهوالاتجاه الى اشاعة الفوضى ومنع الاستقرار والاخلال الامني وهي الحرب البديلة التي تعتمدها اميركا اليوم في سورية. حرب تقوم على القتل والتدمير واستعمال من تم تخديرهم وتصنيعهم من قبل اجهزة المخابرات مستغلة العقيدة الدينية التي يعمل على ترويجها بشكل منحرف (رجال دين ومفتون يبتدعون الفتاوى التي ما انزل الله بها من سلطان ) وان لم تسعف هذه الفتاوى رجال المخابرات فيكون الحل بالمخدارت التي تحول الاشخاص الى ادوات تنفيذية لا فكر لها ولا ارادة ولا تمييز. وهكذا يكون تصنيع الادوات بتخدير وعمى ينتجه فكر ديني محرّف ، اوبرؤى تثير العصبية الجاهلية ، واخيرا بالتخدير العضوي ويضاف اليهم اصحاب شهوة السلطة ممن هم اصلا نكرات في مجتمعهم.
اما التسمية المتداولة لهذه الحرب البديلة فهي « الثورة الشعبية « لطلب «الحرية والاصلاح واقامة حكومة العدل» ، ثورة يكون سلاحها اولاً الجمهور ان توفر ، والا وبكل بساطة « الارهاب « . وهوالسلاح السحري الذي تراه اميركا حلا لمعضلتها اعتمدته سابقا وتعتمده امس.
لقد اسعف الارهاب اميركا عندما مارسته ، وخدمها عندما قررت اوادعت محاربته . خاصة وانها تكيف مفهوم الارهاب حسب مصالحها ، وهنا ندرك سبب رفضها لتعريف الارهاب ووضع معايير ثابتة له كما طالب الرئيس حافظ الأسد اكثر من مرة ، ففي حين تعتمد اميركا للارهاب مفهوماً مرنا متحركا يحدد حسب المصلحة الاميركية ما جعلها تصنف المقاومة ارهابا ، وارهاب الدولة (اسرائيل) دفاعا عن النفس ، نرد عليها بالفقه القانوني الدولي معرفين الارهاب بانه العنف الممارس ضد مدنيين ابرياء من اجل الضغط للوصول الى مصلحة غير مشروعة ،وبانه كل عنف يصيب شخصا بريئا في جسده اوامنه اوماله ( وهذا ما نقول به ).
لقد دعت اميركا المسلحين السوريين الى رفض القاء السلاح و» مقاومة السلطة « ثم طورت توجيههم الى تنفيذ تفجيرات متكررة في الاحياء الاهلة لقتل الابرياء عشوائيا ، ما يرسم مشهدا ارهابيا من غير نقاش ،ومن اجل التفلت من المسؤولية المباشرة تقدم اميركا على الادانة الخجولة للجرائم هذه ثم تدفع عملاءها مما يسمى مجلس اسطنبول الى تحميل النظام المسؤولية بشكل يثير السخرية والضحك.
لقد اختار الارهاب المخطط هدفه في المكان بما يخدم الاستراتيجية الاميركية لجهة زج دمشق في دائرة النار بعد ان رفضت الاستجابة للدعوات بالتظاهر ، فخيبت امال مخططي احداث سوريا فارادوا معاقبتها وجعلها اسما متداولا في اخبار الاضطرابات والفوضى على الطريقة الاميركية .وبهذا نصل الى القول اليقيني ان اميركا لم تدفع من تديرهم الى الارهاب الا لانها عاجزة عن العمل في سوريا باساليب اخرى ونصل الى السؤال : هل ستحقق اميركا اهدافها بالارهاب؟ لقد اثبتت سوريا قوة لم يكن يتوقعها احد ، لذا نرى ان مواجهة السلاح الاخير المتبقي باليد الاميركية امر سهل وصعب في الان ذاته.
-فهوسهل اذا طور الشعب حذره ويقظته ومارس ما نسميه مبدأ « كل مواطن خفير « وراقب كل شخص محيطه وبلور الشعب منظومة فاعلة من المراقبة والتدخل من غير سلاح (يكفي البصر للكشف والاعلام ) تتكامل مع منظومة الامن الرسمي للمعالجة والتعقب بحذر وشدة.
- وهوصعب اذا استطاع الارهاب ان يؤثر على العنفوان الشعبي ودفع الناس الى الانكفاء في بيوتهم واخلاء الساحات للارهابيين وتعطيل الحياة العامة.
لكن معرفتنا بالشعب السوري تجعلنا نقول بان اميركا لن تحقق بالارهاب ما عجزت عنه بالوسائل الاخرى بعد فشل التظاهر المدني وفشل اقامة المناطق المعزولة ثم فشل شق الجيش والدولة .. فشل تلا فشل ولم يبق في اليد الاميركية الا الارهاب.
* أستاذ جامعي وباحث استراتيجي