فأصحاب قوارب الصيد البدائية الضعيفة على امتداد سواحل الصومال (3700 كم) تحولوا، أو تحول قسم منهم بين ليلة وضحاها إلى قوة ضاربة مزودة بمختلف أنواع الأسلحة والأجهزة الإلكترونية اللازمة للقيام بعمليات قرصنة نوعية ويومية، حيث بلغ مستواها الاستيلاء على باخرة لشحن الأسلحة الثقيلة مع كل ما عليها ومن عليها، وعلى ناقلات نفط عملاقة وهي في عرض البحر، وجميع عمليات القرصنة جارية تحت سمع وبصر مختلف القوى الدولية والإقليمية، وفي منطقة يوجد فيها وحدات حربية بحرية بأسلحتها الفتاكة، ما يتبع لأساطيل عدد من الدول العملاقة عسكرياً من أعضاء حلف الأطلسي، وينضم إليها المزيد باستمرار بما في ذلك بواخر حربية روسية وهندية إضافة إلى الإعداد لأسطول إضافي تحت أعلام أطلسية وأوروبية!.
كانت توجد عمليات قرصنة بدائية محدودة الحجم والحصيلة، وكان باستطاعة المحاكم الإسلامية رغم محدودية امكاناتها أن تتعامل مع المشكلة خلال الفترة الوجيزة التي كانت فيها تسيطر على الصومال ونجحت في ذلك فعلاً فكيف بزغت أعلام القرصنة مجدداً بأضعاف أضعاف ما كانت عليه من القوة سابقاً، وعلام بدأ ظهورها المتجدد بهذه القوة أمام سواحل ما يسمى دولة «الصومال الملون» بالذات. إضافة إلى ذلك هل يمكن الفصل بين ظهور القراصنة المفاجئ بهذه القوة المفاجئة وبين إخفاق الجولة الصهيو- أميركية الأخيرة بلباسها العسكري الأثيوبي، ثم ظهور بوادر استعادة القوى الاسلامية الصومالية للسيطرة على أرض الصومال مجدداً؟!.. الجزء الأعظم من مأساة الصومال هو من صنع التدويل، وقد سبق طرح هدف التدويل تحت عنوان «إنقاذ الصومال» من مآسيه الدامية بعد سقوط سيادبري، ولم يسفر إلا عن تثبيت أقدام «أمراء الحرب» ومخالبهم في الجسد الصومالي.
وهدف التدويل مطروح الآن تحت عنوان مواجهة القرصنة، ولن يسفر إلا عن مخالب أشد من مخالب «أمراء القراصنة» فتكاً في الجسد الصومالي ومنطقة القرن الإفريقي إضافة إلى أعماق وادي النيل شمالاً. فمعروف أن «إسرائيل» سعت منذ نشأتها لتدويل البحر الأحمر باعتبار أن جميع دول البحر عربية وهو الأمر الذي يحد من مخططاتها للسيطرة على المنطقة العربية بأسرها، ولذا ركزت على تمزيق الصومال كبداية لتدويل البحر والسيطرة على طرق الملاحة فيه واهتمام «إسرائيل» بإيجاد موطئ قدم لها في الصومال لا يرجع إلى تمتعه بثروات نفطية أو كنوز تحت الأرض ولكن بسبب أن الصومال بحكم موقعه الجغرافي (بوابة) تفتح على المحيط الهندي والخليج العربي أي إنه يتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي تسعى «إسرائيل» لتأمينه مما تسميه خطر وجود قوى إسلامية. كما أن «إسرائيل» تخشى أن تؤدي سيطرة الإسلاميين على الحكم في تلك الدولة إلى تهديد حليفتها أثيوبيا، وذلك من خلال تشجيع مسلمي أثيوبيا على التمرد.
وتنطلق «إسرائيل» من مخططها لتدويل البحر الأحمر من حقيقة كونها لا تمتلك سوى عدة أميال في «إيلات» على شاطئ البحر، لا تتيح لها ممارسة دور القوة البحرية أو تأمين خطوط الإمداد في حالتي السلم والحرب. وتعاظم القلق الإسرائيلي بعد حرب حزيران 1967 وقيام مصر بإغلاق قناة السويس لسنوات طويلة تالية، ثم حرب السادس من تشرين 1973 وقيام اليمن بإغلاق مضيق باب، لذا مهدت «إسرائيل» لمخطط التدويل في 24 آب 1980 بوضع حجر الأساس لمشروع حفر قناة «البحرين» التي تصل بين البحر الأحمر والبحر الميت كخطوة أولى نحو إنشاء الجزء الثاني من القناة التي ستسير لتصل إلى البحر المتوسط عند منطقة حيفا وبالتالي إيجاد قناة مشابهة لقناة السويس. أيضاً فإن تزايد أهمية البحر الأحمر كممر مائي رئيسي للتجارة بين الدول أدى إلى رغبة إسرائيلية جامحة في الإسراع بتنفيذ قناة «البحرين» وخاصة أنه تبعاً لمتوسطات أرقام التسعينيات فإنه يمر عبر البحر الأحمر نحو 325 مليون طن من البضائع تمثل 10٪ من إجمالي الشحنات البحرية العالمية كما ارتفع عدد ناقلات النفط التي تمر سنوياً في قناة السويس إلى 21 ألف ناقلة وزادت كميات البترول الخام التي تتدفق عبر الأنابيب إلى البحر الأحمر بشكل هائل.
والترجيح الإسرائيلي في ظل التدويل يعني الحؤول دون تكرار تجربة التضامن العربي في حرب تشرين التحريرية عام 1973 عبر إقفال قناة السويس وميناء عدن أمام الإمدادات الإسرائيلية كما يعني توفير الغطاء الضروري لتنفيذ مشروع ربط البحر الأحمر بالبحر الميت وما يعنيه من تبدل حقيقي في خطوط التجارة والنفوذ. في هذا الوقت مازال عرب البحر الأحمر يدرسون احتمال عقد اجتماع فيما بينهم لدرس المخاطر ومازالوا غير عابئين بحل المشكلة الصومالية ومازالوا يتوجسون من بعضهم البعض خوفاً من أن يزيد نفوذ هذه الدولة العربية عن تلك، بينما البحر يكاد أن يفر من بين أيديهم.
الثابت أن أضرار تدويل البحر الأحمر ستعم جميع الدول العربية المتشاطئة وخاصة تلك التي تظن أنها محمية بعلاقاتها الوثيقة مع الدول الكبرى التي ما كفت يوماً عن الطمع في السيطرة على هذا الممر المائي الدولي. ولعل تعيين قائد بريطاني على رأس القوة البحرية الأوروبية التي ستلعب دور الشرطة الدولية في هذه المنطقة ينم عن إرادة لا تلين في استعادة ما يسميه الغرب «أسلاباً» عربية غنمها من السلطنة العثمانية واضطر للتخلي عنها خلال الحرب الباردة.
وعليه ربما يتوجب أن تبادر الدول العربية المتشاطئة إلى تشكيل قوة بحرية مشتركة لردع أعمال القرصنة وللقول للأجانب المعنيين بحماية مصالحهم كما يزعمون إن المصالح تمر عبر السيادة العربية على القسم الأكبر من البحر الأحمر وليس على حسابها أو عبر انتهاكها.